نهاية تلفزيون "المستقبل": الأيام الجميلة لم تأتِ

نهاية تلفزيون "المستقبل": الأيام الجميلة لم تأتِ

20 سبتمبر 2019
ميّزت التغطيات الإخبارية القناة بشكل كبير (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -
"صبح الصباح" في لبنان من دون تلفزيون "المستقبل". في تسعينيات القرن الماضي، كانت هذه الأغنية رفيقة صباحات لبنانيين كثر، ينشدها أحمد قعبور، بكلمات كتبها عبيدو باشا، مفتتحاً نهاراً جديداً. اليوم غاب هذا النهار تماماً، مع إعلان رئيس الحكومة اللبنانية، ومالك قناة "المستقبل" سعد الحريري، يوم الأربعاء، عن تعليق عمل المحطة، وصرف مستحقات الموظفين، بعدما وصل الوضع الماليّ إلى أفق مسدود، يستحيل معه استمرار العمل. 

ما هو مصير المحطة النهائي؟ وهل ستشهد انطلاقة جديدة؟ وهل سيتقاضى الموظفون كل مستحقاتهم المتراكمة عن 14 شهراً؟ وماذا عن الديون المترتبة على المحطة والتي تجاوزت 30 مليون دولار؟ كلها أسئلة تبدو الإجابة عليها مبهمة وغامضة. لكن الأكيد أن تعليق العمل بالقناة (تستمر ببث برامج من الأرشيف، ووثائقيات حالياً)، هو إعلان صريح عن نهاية التلفزيون كما عرفه اللبنانيون.

في العام 1993 انطلقت قناة "المستقبل". أطلقها رئيس الحكومة السابق، الراحل رفيق الحريري (اغتيل سنة 2005) كأوضح تعبير عن مشروعه الاقتصادي، مشروع إعادة إعمار بيروت، بعد الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) التي دمّرت وسط المدينة بشكل شبه كليّ. أريد للمحطة الوليدة أن تكون قناة "البهجة"، قناة الحياة والفرح، بعد سنوات من الموت والخوف. حملت لواء مشروع الحريري إذاً، لتضمّ في صفوفها موظفين من كل الألوان والطوائف، وهو ما اعتبر إنجازاً مبهراً، في وقت كان اللبنانيون يخطون خطوات حذرة جداً، نحو إزالة المتاريس، واكتشاف المواطن ــ الآخر، من جديد: سُنةً وشيعة ودروزاً ومسيحيين، وجدوا جميعهم مكاناً في تلك المحطة، وحصلوا جميعهم على فرصهم بالعمل والتقدّم والنجومية.



عشرات النجوم
تماماً كحذر اللبنانيين، بدأ بثّ القناة بحذر. لكن سرعان ما بات انتشارها واسعاً، وسرعان ما بات إعلاميوها نجوماً في كل لبنان: يمنى شرّي، ورزان المغربي، وشاهيناز عبد الله، وزاهي وهبي، وغيرهم كثيرون. عرف رفيق الحريري بمن يستعين، وعرف كيف يخاطب الجمهور، بأغانٍ بسيطة وبرامج قريبة منهم، فكان أبرز أعمدة المحطة الفنان اللبناني أحمد قعبور، القادم من تجربة الأغنية اليسارية/الوطنية، ليردّد شعارات الخطة الحريرية الاقتصادية، بألحان بسيطة، تعدنا بأيام جميلة مقبلة "وحياتك بتمون... كل شي لعيونك بهون، لعيونك"، ثمّ "البلد ماشي، والشغل ماشي، ولا يهمّك"...

في تلك الفترة تحولت "المستقبل" إلى محطة عربية تنافس على سوق الإعلانات من المحيط إلى الخليج. فكانت من المحطات الأولى التي انتقلت من الحيز المحلي إلى الحيز العربي الفضائي، من دون عناء، وبخطاب بسيط غير متكلف، يخاطب الناس، بهمومهم وقضاياهم.

قدم تلفزيون "المستقبل" ما يصلح لأن يرثى اليوم في العالم العربي، بوصف التجربة هذه تحديداً خسارة. بوصفها خريفاً للإعلام العربي، والإعلام اللبناني، وبوصفها انعكاساً لحالة المدينة اليوم. كان "المستقبل" في تلك المرحلة على صورة بيروت. صورة حديثة تواكب إعمار المدينة، ومشروع نهوض البلد عبر نهوض عاصمته أولاً.

الترفيه
أعاد التلفزيون في تلك المرحلة مفهوم الترفيه التلفزيوني إلى البيت اللبناني. هذا البيت الذي كان مدمراً بعد حرب أهلية لم تبقِ منه شيئاً. رافق يوميات اللبنانيين من الصباح مع "عالم الصباح"، الذي كان أول برنامج صباحي عربي ماغازيني يبث لساعات طويلة، بفقرات خاطبت الجميع، من الطفل إلى الأم إلى الأب والشباب. رافقت المحطة كذلك ليل اللبنانيين لسنوات طويلة. رافقتهم ببرامج ترفيهية، مثل "الليل المفتوح"، وأخرى كانت سباقة إلى نقلها إلى لبنان، مثل "الفخ" و"الحلقة الأضعف"، وبرنامج اكتشاف مواهب في العالم العربي "سوبر ستار"، الذي كرت السبحة من بعده. رافقتهم أيضاً ببرامج ثقافية على صورة العالم العربي وقضاياه، مثل "خَلّيك بالبيت"، ومواضيع اجتماعية كانت جريئة في تلك المرحلة عبر "سيرة وانفتحت". كما نقلت القناة، الإعلام المرئي اللبناني إلى مكان أكثر تقدماً لناحية استخدام "الغرافيكس" والاعتماد على مصممين شباب موهوبين، جعلوها تتفوّق في هذا الصعيد، على منافسيها.
تسدل الستارة اليوم ليس على محطة تلفزيونية بل على مرحلة من تاريخ لبنان الحديث. مرحلة ما بعد الطائف تحديداً. وما رافقها، وما كان يراد منها، فكان واضحاً ان اغتيال رفيق الحريري كان اغتيالاً لتلك المرحلة. فليس صدفة أن يحمل تيار "المستقبل" اسم القناة. كان التلفزيون شريكاً للحريري الأب في بلورة الهوية السياسية التي يريدها لمشروعه، على كل الصعد. حتى السياسة التحريرية للمحطة.



الأخبار
لعل تجربة الأخبار في "المستقبل" قد تصلح لحديث مطول. تلك التجربة التي سبقت المحطات الإخبارية العربية، ونجحت في استقطاب الجمهور العربي، مقدمة خطاباً يحاكي المواطن العربي. نقلت المشهد في تلك المرحلة بتجرد، وقدمت تقارير كانت تعتبر أكثر التقارير حرفة وحبكة. واكبت كل حروب المنطقة: من عناقيد الغضب (1996)، إلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000)، وهجمات 11 سبتمبر/أيلول، ثم حرب أفغانستان (2001)، واجتياح العراق (2003). في كل تلك التغطيات قدمت خطاباً واضحاً ومتزناً ومنحازاً للمواطن العربي. مع القضية الفلسطينية، ضد الكيان الإسرائيلي، ضد التطرف، وضد الحروب وقتل المدنيين. في حرب العراق تحديداً كان الخطاب التحريري واضحاً. لم تتحول إلى بوق لنظام صدام، ولم تتماهَ مع دعاة الحروب بحجة تصدير الديمقراطية.

ثقافياً قدم أيضاً التلفزيون انعكاساً لمشهد إسلامي معتدل. كان سباقاً على دعايات "الإرهاب لا دين له" الذي ظهر فجأة في الإعلام العربي بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول. قدم صورة للإسلام - المعتدل رددها حتى غير المسلمين. وصنع صورة لشهر رمضان تشكل اليوم ثقافة دينية جامعة في لبنان. بطلها كان أحمد قعبور، وأطفال دار الأيتام، وبيارقهم، وغناءهم للعيد، وصورة الشوارع، وزينتها، و"أم أحمد" و"أبو أحمد"، وزلغوطة العيد.

نهايات المشروع
مطلع الألفية الجديدة، بدا واضحاً أن مشروع رفيق الحريري الاقتصادي، لم ينهض بالبلاد، بل أكله الفساد، والمحسوبيات والمحاصصة. وبدا أن بيروت الجديدة، التي أريد إعادة إعمارها لتكون لجميع اللبنانيين، قد تحوّلت إلى بقعة للأثرياء، فغادرها تجارها، وبائعوها، وغادرتها الزحمة التي صنعت هويتها قبل الحرب. في تلك السنوات، بدأ تراجع تأثير تلفزيون "المستقبل"، وبات خطاب البحبوحة المقبلة على اللبنانيين، مجرّد أسطورة، في ظل ارتفاع الدين العام، وارتفاع نسب الفقراء في لبنان.

ثمّ جاء العام 2005، واغتيال رفيق الحريري. في تلك اللحظة بدأت السطور الأول لنهاية المحطة تكتب. فقبل الاغتيال
بأشهر قصف مبنى الأخبار بصواريخ مجهولة. كانت رسالة للحريري، وكان إدراكاً من قبل من اغتاله بدور تلفزيون "المستقبل" وأهميته. خرج يومها "عالم الصباح" من أمام الأنقاض. طها الشيف رمزي من هناك في فقرته المعتادة.
كل ما حصل بعد ذلك، كان متوقعاً، رغم محاولات التلفزيون الصمود: حريق مبنى الروشة في 7 مايو/أيار 2008، من قبل مناصرين للحزب السوري القومي الاجتماعي، ثمّ انفجار الأزمة المالية، ومغادرة نجوم القناة. سريعاً بات التلفزيون قناةً مهملة، فنخرها الفساد، كما هي حال مؤسسات كثيرة تركها رفيق الحريري خلفه.
في العام 2013، علا الصوت للمرة الأولى، وبدأ الموظفون يشتكون من تأخر رواتبهم، غابت الإعلانات، وبدأ التمويل السياسي (السعودي بشكل أساسي) يتقلّص حتى اختفى تماماً.
يوم الأربعاء، أعلن سعد رفيق الحريري نهاية تلفزيون "المستقبل". نهاية المحطة التي أريد لها أن تبشّر اللبنانيين بأيام جميلة مقبلة. قد تعود القناة بحلة جديدة، وبتمويل جديد، لكن الأكيد أن أول من أمس، طويت للمرة الأخيرة، صفحة أساسية من تاريخ الإعلام المرئي اللبناني، بديون كثيرة، وبمستحقات معلّقة لأكثر من 350 موظفاً لبنانياً.

المساهمون