تسريبات داروك: قيود على حرية الصحافة البريطانيّة

تسريبات داروك وقانون الأسرار الرسمية: قيود على حرية الصحافة البريطانيّة

16 يوليو 2019
استقال كيم داروك الأربعاء الماضي إثر التسريبات (بول موريغي/Getty)
+ الخط -
استمرّت قضية التسريبات الدبلوماسية في التفاعل في بريطانيا خلال عطلة نهاية الأسبوع بعد أن أعلنت الشرطة عن مباشرتها تحقيقاً جنائياً في القضية التي تسببت باستقالة السفير البريطاني في واشنطن كيم داروك. ولكن تحذير الشرطة من نشر المزيد من الوثائق المسربة وملاحقة المسربين قانونياً أثار المزيد من الجدل حول حرية الصحافة والحق في التعبير. 

وحذّر نيل باسو، من شرطة مكافحة الإرهاب البريطانية، الإعلام من نشر المزيد من الوثائق الحكومية المسربة لأنه فعل جنائي، وطالبه بإعادة هذه الوثائق إلى أصحابها أو تسليمها إلى الشرطة. وأكد باسو أن التحقيق تقوده قوة مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية والتي ترى في القضية خرقاً لقانون الأسرار الحكومية، بينما كانت الحكومة البريطانية قد بدأت تحقيقاً داخلياً خاصاً بها الأسبوع الماضي.

وكانت صحيفة "صنداي تايمز" قد كشفت يوم الأحد أن التحقيقات تشتبه في شخص معين مسؤول عن التسريبات، ونفت فرضية قرصنة الحواسيب الحكومية البريطانية من قبل دولة أجنبية. ونقلت الصحيفة عن مصدرها قوله: "يعتقدون أنهم توصلوا لمن قام بالتسريب. ويعملون الآن على بناء قضية يمكن تقديمها للمحكمة. يعتقدون أن الشخص المسؤول تمكن من الوصول إلى الأرشيف وتناول طيفاً متنوعاً من الوثائق".

إلا أن مطالب شرطة مكافحة الإرهاب البريطانية أثارت العديد من الانتقادات التي أصرّت على حرية الصحافة، وهو ما دفعها إلى التراجع عن موقفها. وكان بوريس جونسون، المرشح الأبرز لرئاسة الوزراء، قد دافع عن حق الصحافة في نشر الوثائق الدبلوماسية المسربة، قائلاً إنّ ما تطلبه الشرطة "هو تعدٍّ على حرية الصحافة وله تأثير مخيف على النقاش العام"، مؤكداً في الوقت ذاته على ضرورة ملاحقة المسؤول عن التسريبات ومحاكمته. وتابع جونسون أنه "لا يمكن تخيل أي منطق سليم تتم فيه ملاحقة الصحف أو أية وسيلة إعلامية تنشر مثل هذه المواد". وأضاف: "لا أرى أي خطر للأمن القومي في نشر هذه المواد. إنه أمر مخجل ولكنه لا يهدد الأمن القومي. بل إن واجب الإعلام تقديم الحقائق الهامة والجديد إلى المجال العام. هذا هو عمله".

وجاءت تصريحات جونسون بعد أن قال منافسه على رئاسة الوزراء، وزير الخارجية جيريمي هنت، إنه سيدافع عن حق الصحافة في نشر التسريبات. وكتب هنت في تغريدات على تويتر: "لقد ألحقت التسريبات الضرر بالعلاقات البريطانية الأميركية وتسببت بخسارة سفير أمين لعمله، ولذلك يجب أن يتحمل الشخص المسرب المسؤولية. ولكني سأدافع عن حق الصحافة في نشر هذه التسريبات إذا حصلت عليها وأراها ضمن المصلحة العامة: هذا هو عملها".


كما اتهم وزير المالية السابق، ورئيس تحرير صحيفة "لندن إيفننغ ستاندرد"، جورج أوزبورن، الشرطة، بالتعدي على حرية الإعلام. وضمّ مدير جمعية المحررين، إيان موراي، صوته إلى أوزبورن بالقول "لا أستطيع تخيل مقاربة شرطية أسوأ عنفاً من محاولتها قمع دور الصحافة في الوقوف في وجه السلطة". وأضاف أن "مثل هذه التصرفات لا تأتي إلا من قبل الأنظمة الشمولية".


إلا أن وزير الدفاع البريطاني السابق، مايكل فالون، خالف هذه المواقف، فقال لـ"بي بي سي"، السبت، إنّه يعتقد بضرورة محاكمة الصحافيين وفقاً لقانون الأسرار الحكومية، مشيراً إلى أنه "فور معرفة هوية المسرب، يجب التحقيق معهم وملاحقتهم قانونياً". كما وصف طلب الشرطة من الصحافة عدم نشر بقية الوثائق بأنه "منطقي جداً". ولفت إلى أنه "إذا حصلوا على مواد مسروقة فيجب عليهم إعادتها لأصحابها، ويجب أن يكونوا على حذر من الضرر الكبير الذي يمكن لهم أن يتسببوا به، والضرر الأكبر المحتمل الذي قد ينجم عن المزيد من الخروقات لقانون الأسرار الحكومية". وتابع "لا أعتقد أن أي شخص يستطيع تبرئة نفسه من ضرورة عدم إلحاق الأذى بهذا البلد. لدينا حرية صحافة... ولكن لدينا قوانين أيضاً. لدينا قانون الأسرار الحكومية ومن الضروري الالتزام به".

ويهدف قانون الأسرار الحكومية البريطاني إلى حماية أسرار الدولة والمعلومات ذات الصلة بالأمن القومي للمملكة المتحدة. ويشمل ذلك شؤون الأمن والاستخبارات والدفاع والعلاقات الدولية والمعلومات السرية التي يتم استئمان دول أخرى عليها. ويطبق القانون على من عملوا أو ما زالوا يعملون لدى الحكومة أو من يمتلكون وصولاً لهذه المعلومات كجزء من عملهم.

ويحمي القانون في نسخته الأصلية عام 1911 المسربين للإعلام تحت ذريعة المصلحة العامة، إلا أن تعديلاً عام 1989، ألغى هذه الفقرة. وفي عام 2017، أصدرت لجنة حقوقية، بناءً على طلب حكومي، توصياتها لتحديث القانون ليتناسب مع العصر التقني الحديث. ومن التوصيات أن يشمل القانون الصحافيين الذين ينشرون التسريبات، بشكل تشمل العقوبة السجن لمدة عامين. إلا أن زوبعة من الردود الرافضة للتقرير دفعت إلى تأجيل البت فيه. وتشمل عقوبة من يخرق مواد القانون السجن لأربعة عشر عاماً بحق من يدانون بالتجسس أو التخريب المتعمد، وهي أقصى العقوبات. ولكن العقوبات الأخف قد تشمل السجن لمدة عامين. وبالتالي فإنّ من سرب مراسلات السفير البريطاني سيواجه عقوبة تتراوح بين غرامة مالية والسجن لعامين، وفقاً لتقييم القضاء لدرجة الضرر الذي تسببت به التسريبات.

وتمّت إدانة عدد من الأفراد لخرقهم القانون في السنوات الماضية. فقد دينت الموظفة في وزارة الخارجية البريطانية، سارة تسدال، بتسريب وثائق حكومية عام 1983 تتعلق بالأسلحة النووية الأميركية لصحيفة "ذا غارديان"، وحكم عليها بالسجن لستة أشهر. وفي عام 1997 حكم على ريتشارد طوملينسون، وهو العميل السابق لجهاز المخابرات الخارجية MI6، بالسجن لمدة عام بعد أن أرسل لمحة عن كتاب يتناول فيه سنوات خدمته لدى المخابرات البريطانية إلى دار نشر في أستراليا.

كما قضى ديفيد شيلر، الضابط في الاستخبارات الداخلية MI5، ستة أشهر في السجن عام 2002 بعد بيعه وثائق شديدة السرية لصحيفة "ميل أون صنداي" مقابل 40 ألف جنيه استرليني. أما عام 2003، فشهد إدانة كاثرين غون، المترجمة لدى مقر إدارة الاتصالات الحكومية والتي اتهمت بالكشف عن تنصت عملاء استخبارات أميركيين على وفود الأمم المتحدة بغرض معرفة نيتهم للتصويت على حرب العراق المستعرة حينها. وتمت إدانتها بعد تسريب وثيقة قد تعود لوكالة الأمن القومي الأميركية تطلب المساعدة من الأجهزة البريطانية.

وكانت تسريبات نشرتها صحيفة "ميل أون صنداي" لمراسلات السفير البريطاني داروك الأسبوع الماضي تسببت بأزمة دبلوماسية بين بريطانيا والولايات المتحدة، إذ وصف فيها داروك إدارة ترامب "بعدم الكفاءة" وهو ما أثار حفيظة الرئيس الأميركي، والذي رفض التعامل مع السفير البريطاني. وانتهت هذه الأزمة باستقالة داروك يوم الأربعاء الماضي. إلا أن الصحيفة عادت ونشرت المزيد من الوثائق المسربة من مراسلات داروك، والتي يقول فيها إنّ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران يعود لكراهية الأخير لسلفه باراك أوباما. وكتب داروك في رسالة إلى وزير الخارجية حينها بوريس جونسون: تتجه الإدارة الأميركية إلى عمل دبلوماسي تخريبي، فيما يبدو لأسباب عقائدية وشخصية، لكونها صفقة أوباما

المساهمون