قضية بشارة الأسمر: الجنون اللبناني

قضية بشارة الأسمر: الجنون اللبناني

20 مايو 2019
بشارة الأسمر (تويتر)
+ الخط -
في لبنان الحالي، تتحوّل مزحة "سوقيّة" إلى قضيّة رأي عام، ثم جنحة تستدعي السجن. هكذا، ادّعت النيابة العامّة الاستئنافية في بيروت، اليوم الإثنين، على رئيس الاتحاد العمالي العام (المستقيل) بشارة الأسمر، بجرم قدح وذم وتحقير الشعائر الدينية. أحيل الملف لقاضي التحقيق الأول في بيروت القاضي غسان عويدات، الذي أحاله بدوره على القاضي جورج رزق لإجراء التحقيق مع الأسمر (غداً) واتخاذ الإجراءات اللازمة. خواتيم "قضية الويك أند" في لبنان جاءت بعد حملةٍ مُركّزة، قادها إعلاميّون ينادون بالحريّات إذا ما مسّهم القمع شخصياً فقط، وجنودها مستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي، هبّوا فجأةً لتحويل نكتةٍ سمجة إلى قضيّة وطنيّة تهدّد السلم الأهلي، هي في الحقيقة لا ترتقي لمصاف شتائم كثيرة وجّهها سياسيون ومسؤولون لمواطنين سابقاً، على الهواء وتحته. فماذا حدث؟ يوم الجمعة الماضي، انتشر تسجيل مصوّر (خلسةً)، يُسمع فيه الأسمر بينما يتحدّث عن البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير، الذي شُيّع يوم الخميس بحضور شعبي ورسمي، بعد أيامٍ من الرثاء والوداعات والاستحضارات لتأثيره على السياسة وتاريخ لبنان الحديث، التي احتلّت الشاشات. قال الأسمر في التسجيل إنّ صفير بات اليوم قديساً، ساخراً من الحملة الإعلامية الكبيرة التي رافقت وفاته، ممازحاً من كانوا إلى جانبه خلال التحضير لمؤتمر صحافي، حول "الصلاة لصفير كي ينبت شعر على رأسه"، وكي "يحقّق انتصاباً" في عضوه الجنسي. 
انتشر الفيديو بكثافة على الفور، وتلقّفته وسائل إعلاميّة، كانت بينها قناة "إم تي في" (يملكها غابريال المر وتؤيد خطّ القوات اللبنانية)، التي سخرت من مشاكل الأسمر الجنسية في مقدّمة نشرة أخبارها ذلك اليوم. اعتُبر كلام الأسمر غير مقبولٍ وتحقيرياً لصفير وللطائفة المارونيّة (التي ينتمي إليها الأسمر لحسن الحظ، وإلا لربما تفجرت أزمة طائفية)، فتسلّحت وسائل الإعلام بتلك الذريعة، لتخرج بمانشيتات وتقارير تطالب بسجنه وإنزال عقوبةٍ كبيرة به "كي يكون عبرةً لغيره"، في ظلّ تصريحاتٍ مكثّفة لسياسيين ووزراء ونواب تدعو لمحاسبته، ليس لها مثيل سابقاً، حتى في القضايا الوطنية "الجامعة". اعتذر الأسمر بعدها، معتبراً ما صدر عنه "زلّة لسان"، لكنّ ذلك لم يكُن كافياً. ففي ظلّ العطلة القضائية في نهاية الأسبوع، فُتحت أبواب المحاكم للأسمر على عجل، لتستدعي المباحث الجنائية المركزية الأسمر وخمسة من أعضاء هيئة مكتب الاتحاد، ممّن كانوا إلى جانبه على المنصّة، وضحكوا لنكتته، وأصدرت أمراً بتوقيفه، قبل أن يتمّ الادعاء عليه اليوم.

تُثير القضيّة مخاوف عدّة، بدءاً من الحريات التي تتقلّص يومياً منذ عام 2017، وصولاً إلى تطويع القانون كي يكون غبّ طلب شعبويّة سياسيّة. إذ إن نيّة الأسمر في كلامه لم تكن جرميّة في الأساس، وهو لم يكن يعرِف أنّ الميكروفون مشغّل أو بقيام أحد الحاضرين (لم يُكشف عن هويّته) بتصويره. وفي جنح تحقير الشعائر الدينية، تنصّ المادة 474 من قانون العقوبات على أنّه "من أقدم بإحدى الطرق المنصوص عليها في المادة 209 على تحقير الشعائر الدينية التي تمارس علانية، أو حثّ على الازدراء بإحدى تلك الشعائر عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى 3 سنوات". لكنّ الأسمر لم يُحقّر أي شعار ديني في مزحته تلك.


هذا فيما يفنّد قانون العقوبات جنحتي الذم والقدح، التي لا تتطبّق بنوده على حالة الأسمر، إذ إنّ أحداً لم يدّعِ عليه شخصياً بعد. وتقول المادة 582 أنّه "يعاقب على الذم بأحد الناس المقترف بإحدى الوسائل المذكورة في المادة 209 بالحبس حتى 3 أشهر، وبالغرامة حتى المائتي ألف ليرة أو بإحدى هاتين العقوبتين. ويقضى بالغرامة وحدها إذا لم يقع الذم علانية". بينما تنصّ المادة 584 على أنه "يعاقب على القدح أحد الناس المقترف بإحدى الوسائل المذكورة في المادة 209، وكذلك على التحقير الحاصل بإحدى الوسائل المذكورة الواردة في المادة 383 بالحبس من أسبوع إلى ثلاثة أشهر أو بالغرامة من خمسين ألفاً إلى أربعمائة ألف ليرة. ويقضى بالغرامة وحدها إذا لم يقترف القدح علانية". لكنّ المادة 586 التي يعود الملف لها في هذه الحالة، تنصّ على أنّه "تتوقف الدعوى على اتخاذ المعتدى عليه صفة المدعي الشخصي. إذا وجه الذم أو القدح إلى ميت جاز لأقربائه حتى الدرجة الرابعة دون سواهم استعمال حق الملاحقة. هذا مع الاحتفاظ بحق كل قريب أو وريث تضرر شخصياً من الجريمة".

كلّ هذا يُشير إلى نزاعٍ يُستغلّ فيه القانون لمصالح سياسية، وإن لم يُكشف عن تفاصيلها بعد. يأتي حبس الأسمر لنكتته، بعدما كان يُهدد (باسم العمال والاتحاد العمالي العام) بإضرابٍ وطنيّ عام إزاء السياسات الضريبيّة التي تناقشها الحكومة اللبنانيّة في الموازنة الجديدة، والتي تمسّ رواتب العمال والموظفين الحكوميين، ولا تطاول فلساً من أموال الصفقات أو مشاريع الفساد. لكنّ الأسمر كان متهماً بالفساد أيضاً. كان موظّفاً في أهراءات بيروت (وظيفة حكومية)، لا يحضر إلى عمله ولا يمارس وظيفته، لكنّه كان يتقاضى راتبه كاملاً. قيل ذلك مراراً على الشاشات، وضحك عليه المواطنون. لم يُحرّك القضاء حينها، أو السياسيون، ساكناً إزاء هدر أموال الشعب اللبناني على أشخاص يعتبرون أنفسهم زعماء للعمال، وليسوا عمالاً أصلاً. وفقط بعد القضية، اتخذ وزير الاقتصاد منصور بطيش قراراً بفسخ عقد الأسمر، إزاء "سقطته الأخلاقيّة المستهجنة"، وليس بسبب تقصيره المهني.

قبل سنوات، كان هذا النوع من النكات يُبثّ على الهواء. كان تحقيرياً لفئات عدة في كثير من الأحيان، لكنّه كان يُعجب الشارع اللبناني ويمثّله. اليوم، يحاكم الأسمر لا لتقصيره أو ارتهانه، بل لنكتةٍ سمجة تطاوله هو شخصياً أولاً. وبهذا، يعود الإعلام اللبناني، بمؤازرة سياسيين يرتهن لهم في أغلب الأحيان، ليُعلّق مشانق جماعيّة وفقاً لمحاكم أخلاقيّة مبنيّة على انفصالٍ تامّ عن الواقع، وعلى ثقلِ دمٍ لا يحتمل. يحفر ذلك الإعلام مجدداً، إن عبر الشاشات أو من خلال حسابات صحافيين على مواقع التواصل تُهلّل للاعتقال والمحاسبة، قبره المصنوع من القمع وتكميم الأفواه بيده.
قد تنتهي قضيّة الأسمر كما سابقاتها، لكنّ عهد القمع اللبناني لا يزال في بداياته.