محاكمة بوعشرين... من الاعتقال إلى خبراء الفيديو

محاكمة بوعشرين... من الاعتقال إلى خبراء الفيديو

12 يوليو 2018
محكمة الدار البيضاء (فاضل سنّة/فرانس برس)
+ الخط -
بدا يوم الجمعة في الثالث والعشرين من فبراير/ شباط الماضي عادياً جدًا في مدينة الدار البيضاء المغربية، خصوصاً في المبنى الذي يضم عدداً من مقرات الصحف والشركات، قبل أن يتحوّل المكان فجأة عصر ذلك اليوم إلى مكان اندلعت منه قضية لا تزال تستأثر باهتمام الرأي العام المحلي والدولي أيضاً. 

حلّ يومها بالعمارة التي تأوي مقرّ جريدة "أخبار اليوم" المغربية عددٌ من رجال الأمن قدرهم البعض بعشرة عناصر، وآخرون قالوا إن عددهم بلغ أكثر من عشرين عنصر أمن، أحاطوا مقر الصحيفة، ودخل بعضهم إلى مكتب الصحافي توفيق بوعشرين بصفته مدير نشر الجريدة، قبل أن يخرجوا منه بأجهزة إلكترونية شكّلت في ما بعد أساساً لمحاكمته.

في البداية، انتشر خبر اعتقال بوعشرين كالنار في الهشيم، وتداول الناس في ما بينهم تكهّناتهم بشأن خلفيات نقل الصحافي المعروف إلى مقر الشرطة القضائية بالعاصمة الاقتصادية للمملكة. وربط بعضهم توقيف بوعشرين بافتتاحياته وكتاباته السياسية التي توصف بكونها جريئة.
واقتنع البعض بأن الاعتقال جاء ليعاقب مدير نشر "أخبار اليوم" على انتقاداته لبعض الشخصيات النافذة في البلاد، وتطرقه أكثر من مرة إلى انتقاد ظاهرة الجمع بين الثروة والسلطة، فيما ربط آخرون الاعتقال بمواجهات سابقة لبوعشرين مع شخصيات نافذة في دهاليز المحاكم.

وأمام تناسل الأخبار والتكهنات وحتى "الهاشتاغات" المنتشرة، وبينها "#الصحافة_ليست_جريمة"، جاء بلاغ أول صادر عن الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، يوم 24 شباط/ فبراير، أفاد بأن الأمر يتعلق بشكاوى وصلت إلى النيابة العامة، لكن من دون إظهار طبيعتها "صوناً لقرينة البراءة".



"غموض" البلاغ الأول بدده بلاغ ثانٍ صدر عن الجهة الرسمية نفسها، أكد أن بوعشرين ليس ملاحقاً في قضية لها علاقة بالنشر أو الصحافة، "بل بجريمة اعتداءات جنسية"، فجاء هذا البلاغ ليحول ملف اعتقال بوعشرين إلى قضية تغذي الكثير من المتابعة والاهتمام، وتساءل الرأي العام عن طبيعة هذه الاعتداءات الجنسية، ومن ارتكبها ومن هم ضحاياها، إلى آخر التساؤلات التي زادت تناسلاً.

وفي 26 فبراير، صدر بلاغ جديد ليثير صدمة ورجة قوية وسط الكثيرين، حيث أورد عددًا من التهم بإحالة بوعشرين إلى غرفة الجنايات في حالة اعتقال لمحاكمته، وأبرزها "الاتجار بالبشر باستغلال الحاجة والضعف والهشاشة، واستعمال السلطة والنفوذ لغرض الاستغلال الجنسي عن طريق الاعتياد، والتهديد بالتشهير، وهتك عرض بالعنف والاغتصاب ومحاولة الاغتصاب"، فضلاً عن "التحرش الجنسي وجلب واستدراج أشخاص للبغاء، واستعمال وسائل للتصوير والتسجيل".
وبمجرد ما تم الإعلان عن التهم، والذي واكبته القناة الرسميّة المغربية، حتى انطلق مسار ماراثوني من محاكمة بوعشرين في مواجهة ضحايا مفترضين، استنادًا إلى "لقطات فيديو يناهز عددها 50 شريطاً مسجلاً على قرص صلب ومسجل فيديو رقمي"، وفق ما ورد في البلاغ الرسمي للاتهام.

منذ بداية المحاكمة التي كانت تجري في أكثر من يوم خلال الأسبوع الواحد، وبوتيرة مرتفعة وكثيفة جعلت الصحافي المعتقل يطلب في مرات عديدة تأجيل الجلسة، حاول محامو بوعشرين أن يلتقطوا ما سموه "الخيوط الواهنة" في الملف، وأن يبرهنوا أن الاتهامات لا تستطيع الصمود أمام أدلتهم في كون الصحافي المعني بريء من تلك التهم الخطيرة.
واعتبر محامو ناشر "أخبار اليوم" أنّ المحاكمة تبدو قانونية لكنها تحمل خلفيات ودوافع سياسية، باعتبار الصحافي المتهم معروف بكتاباته وانتقاداته اللاذعة لشخصيات قوية في الدولة، في الوقت الذي تمسك الطرف الثاني بمسألة أن المحاكمة تجري لوجود جرائم تتعلق بتهم الاستغلال الجنسي.



وعرفت أطوار المحكمة في كثير من الجلسات التي كانت علنية مشادات ومشاحنات بين دفاع بوعشرين ومحامي المشتكيات، من خلال إثارة بعض الملفات والقضايا، وهو ما كان يدفع القاضي إلى إرجاء الجلسات إلى وقت لاحق، قبل أن تعرف المحاكمة منعطفا بارزًا، يتمثل في عقدها بشكل سري وعرض الفيديوهات المنسوبة إلى بوعشرين.

وطيلة الجلسات السرية التي تم فيها عرض زهاء 50 مقطع فيديو، أصر الصحافي المعني على أنها مفبركة وأن لا علاقة له بها، وأتى بأدلة تثبت أنه كان في أماكن أخرى في التوقيت المسجَّل على بعض الأشرطة، مقابل تشبث المشتكيات ودفاعهنّ بأن الذي يظهر في الأشرطة هو بالفعل بوعشرين.

واتسمت الجلسات السرية التي كان شهر رمضان ساحةً لأغلبها، بغير قليل من المفاجآت، منها أمر القاضي بإحضار شاهدات بالقوة، وهو ما أثار جدلاً قانونياً كبيراً، وأيضاً رفض شاهدات ومصرحات اتهام بوعشرين باغتصابهن أو التحرش بهن، وهو ما جعل محامي الصحافي يؤسسون على هذه التصريحات بأن الملف بُني على باطل، فهو باطل.

وعرفت المحاكمة، فضلاً عن انسحاب بعض أبرز محامي بوعشرين ثم تراجع بعضهم عن الانسحاب، منعطفاً آخر يتمثل في قرار المحكمة الإتيان بخبراء تقنيين في مجال التصوير وأشرطة الفيديو، وهو القرار الذي أثار سجالاً بين دفاع الصحافي الذي اعتبر ذلك تشكيكاً من المحكمة نفسها بصدقية الأشرطة، وبين محامي المشتكيات الذين قالوا إن الخبراء سينيرون العدالة القضائية.

وفي التاسع من يوليو/ تموز الجاري، قرر القاضي بوشعيب فارح بمحكمة الجنايات بمدينة الدار البيضاء تأجيل جلسة محاكمة الصحافي إلى يوم 25 يوليو الجاري، بهدف منح وقت كاف للخبراء التقنيين للاطلاع على مقاطع الفيديو. ومن المرتقب أن تكشف المحكمة عن قرار الخبراء أمام محامي الطرفين معاً، وهو ما من شأنه أن يشكل منعرجاً حاسماً ومؤثرًا في القضية، رغم أن دفاع بوعشرين استبق الأمر بإثارته لبعض الانتقادات بشأن المعدات الإلكترونية المحجوزة.