دوروثي لانج... المرأة في "سياستها" البصرية

دوروثي لانج... المرأة في "سياستها" البصرية

17 نوفمبر 2018
"الأم المهاجرة" (دوروثي لانج/SSPL)
+ الخط -
تحتفي باريس بالمصورة الفوتوغرافية الأميركية دوروثي لانج (1895- 1965). معرض كبير عن أعمال تتنوع فيها الثيمات التي شغلتها كفنانة تجريبية ومعدّة أفلام، ونسوية قبل كل شيء. فلا يمكن عبور عوالم هذه المصورة الفذة من دون الخوض في تراسيم نضالها النسوي كامرأة أسست لاحقاً مدرسة معاصرة في التصوير الفوتوغرافي والصحافي، ودفعت في واجهة أعمالها الاهتمام بالمرأة كعنصر غير تسويقي، وتعاملت معها ككيان فاعل ومعرّض للألم وفرد مؤثر، في حقبة كانت المرأة تستخدم فيها سلعة أمام عدسات التصوير وفي أوج الدعاية التجارية.
ومن خلال عنوان المعرض "سياسات المرئي"، نتجاوز ما يريد القائمون تحديده لنا في هذه العوالم. فالمصورة التي تعاملت مع الصورة، كوثيقة حية تقف أمام التاريخ وتهبه قيمة التذكر، سيّست المرئيات بما يسمح أن تكون مادة خاما تخوض سياسة بصرية. متعدية فنيتها وكادرها التعبيري. فالسياسة في صور لانج تحاكي النظام وتعارضه في آن، وتجعله بالسواء أمام حركة الفلسفة والمفاهيم والأنثروبولوجيا. فلم تعد الصورة مجرد استخدام في صحيفة أو مكون لها، بل حجر معرفة مكتف بنفسه، لا بل يعزز وجود النص والنشر رديفاً له لا العكس.
وفي صالة العرض، يكتشف الزائر أعمالاً ونصوصاً لم يسبق ان رآها في فرنسا، من أرشيف المصورة التي تمعنت في تحديد هوية "البورتريه" الفردي وتعمقت في تحديث الصورة الصحافية، وجعلت من اسمها أيقونة. إذ كانت من أوائل المصورين الذين عرضت أعمالهم في متحف الفن الحديث في نيويورك في 1966.


لكن معظم الزوار كانت وجهتهم واحدة، على وفرة الصور والنصوص المعروضة بحثاً عن العمل الخالد: "الأم المهاجرة". عنوان يبدو متطابقاً مع الأزمات الراهنة ومبنياً عليها. رغم أن الصورة التقطت في عام 1936 في كاليفورنيا. سيدة صاحبة وجه مضطرب وحولها أطفالها الثلاثة بثياب رثة ومتسخة. تكاد تكون الصورة ملمحاً آخر لأمهات سورية واليمن والعراق وعيونهن الغارقة بالأسى. وهنا يحق لنا تخيل وجود لانج في أيامنا هذه. كيف كان لها أن تقف أمام موت الآلاف من الأطفال في البحر والبر وعلى الحدود؟ وكيف سترى، وهي ابنة الولايات المتحدة الأميركية، تعامل إدارة الرئيس دونالد ترامب مع أزمة الأطفال المهاجرين من المكسيك الذين سُجنوا في أقفاص.
وهنا تقع تسمية المعرض في مكانها، فهي رغم أفول حدثيتها كصور، تجر معها حكمتها. تتقاطع مع ما ودّت يوماً لانج تحديثه في مشروعها المتكامل، منذ حلمها في أن تكون مصورة، وصولاً إلى ذروة نجاحها، في أربعينيات القرن الماضي، أي شطر السياسة بلحظة مثبتة لن تمحى من التاريخ. وهو ما نراه جلياً في ترجمة عملية لصورها التي خاطبت تحديات الفرد المعاصر أمام الحرب والعنف والاقتتال والعنصرية والرهاب والتمييز الجنسي وسوء المعاملة والفقر.
وتحولت "الأم الخالدة" منذ نشرها إلى ترميز عميق عن القرن العشرين. وحاكت مآلات الكساد الذي ضرب في ثلاثينيات القرن الماضي أميركا. بالطبع لا يمكن أن نهرب من هذه الأيقونة الشهيرة، حين نتمشى في أروقة المعرض، لكن لا يمكن الخضوع لعمل وحيد عن مصورة كرست اشتغالها في خدمة الصحافة وتحولاتها. هذا ما نشاهده في مشروعها الذي أمسى مكرساً في أرشيف التصوير العالمي، عن المهاجرين الجياع في نيبومو في كاليفورنيا.

هناك أمضت لانج شهراً كاملاً بين الطرق الموحلة تبحث عن البؤس في عيون المزارعين. قادتها لوحة معلقة على ناصية الطريق مكتوبة بخط اليد: "مخيم قاطفي البازلاء"، إلى "الآخر" كمستقطع زمني وتوثيق لمرحلة قد تتكرر في بيئات أخرى أو زمن آخر حتى. هناك اكتشفت أن الأشخاص عالقون في حياة قاسية، ببراثن بطالة موحشة وفقر مخيف. نشرت الصور مرفقة بمقالة لبول تايلور الذي أصبح لاحقاً زوجها، لتكون هذه بدايتهما معاً في العمل كفريق للتجوال في حيوات المزارعين، بعد تكليف من الحكومة لدراسة ظروف معيشتهم. ومن بعدها أُسند إلى لانج من قبل الحكومة الأميركية مشروع آخر، يتعلق بميناء بيرل هابور الذي قُصف خلال الحرب العالمية الثانية، حيث اكتشفت أن صورها تقول الحقيقة أكثر من اللازم، فحظر المشروع من النشر. وتعد هذه الصور مفصلية في حياة لانج، حيث أبرزت في "بورتريهات" مختلفة، معاناة اليابانيين بعد نقلهم إلى معسكرات الاعتقال، حيث ألقت الضوء على واحدة من أكثر الحقبات "سواداً" في التاريخ الأميركي.
وتؤكد الصور المعروضة في خمس مجموعات، على القوة العاطفية المشحونة في كادراتها وسياقها الوثائقي. أكثر من مائة صورة التقطتها لانج بين عامي 1933 و1957، تسلط الضوء على وثائق ووقائع، لم يكن الجمهور على دراية بها كمفعول سياسي واجتماعي. حيث تشكل "رؤية" خاصة للفترة ما بين الحربين العالميتين في الولايات المتحدة وتطوير المعرفة بها. ويقدم المعرض للجمهور الفرصة لفهم قوة هذه الصور، وتجذّرها في قدرة لانج على تفاعلها مع مواضيعها التي تتضح في النصوص المرافقة. لكن ما يمكن فهمه بشكل غير قابل للشك أن هذا المعرض يعد توثيقاً أيضاً لتاريخ شفوي وبصري عن فترة غامضة ويعطي معلومات بصرية ذات جودة للأجيال المقبلة.

دلالات

المساهمون