صفحات "النهار" البيضاء... أو الوضع الذي لا يُحتمل

صفحات "النهار" البيضاء... أو الوضع الذي لا يُحتمل

11 أكتوبر 2018
(جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
بالعاميّة اللبنانيّة، تكلّمت نايلة تويني. حكت عن الوضع الذي لم يعُد يُحتمل في لبنان. لم تُشكَّل حكومة بعد. مدّد مجلس النواب لنفسه قبل أن يُطلق سراح أصوات اللبنانيين ويسمح لهم بالاقتراع مجدداً. لم يعُد الوضع يُحتمل. الهواء الذي نتنفّسه في لبنان مُلوّث. القمامة في كُلّ مكان. الاقتصاد ينهار يومياً. لم يُعد الوضع يُحتمل.


بعد "شو إعلامي" ناجح (بمعايير الترند) لصحيفة لبنانيّة هي الأعرق، شغل اللبنانيين وأوصل رسالة عبر صفحاتٍ ثمان فارغة خرجت الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول 2018، عقدت رئيسة تحرير "النهار" نايلة تويني مؤتمراً صحافياً لتُطلق "صرخة" و"تدقّ ناقوس الخطر". بكلماتٍ تحمل كُلّ ما يُمكن أن تُعبّر عنه كلمة "كليشيه"، تحدّثت عن مبادرة "نهار أبيض في وجه الظلمة" تحثّ السياسيين على العمل لأجل لبنان، البلد الذي اكتشفت صحيفة "النهار" أنّه ينهار، اليوم.

تبدو عبارة "لم يعُد الوضع يُحتمل" أقرب إلى الساركازم بينما تقولها نايلة تويني. فالأخيرة، تملك صحيفة. أسّسها جدّها عام 1933، وورثتها عن والدها (جبران تويني)، فترأس اليوم مجلس إدارتها وتحريرها. تملك صحيفة يعرفها جميع اللبنانيين. تستطيع تلك الصحيفة أن تخرج يومياً بتحقيقاتٍ عن الفساد المستشري في كلّ القطاعات. أن تخرج بتقارير تُعطي الصوت فعلاً للشعب، كما دعت تويني لأن تكون صفحات "النهار" البيضاء اليوم. تستطيع الصحيفة أن تطبع مقالاتٍ افتتاحيّة تضع الإصبع على كُلّ جرحٍ في جسد البلد المُنهار، وتسمّي الأمور والمسؤولين والصفقات والفاسدين بأسمائهم. تستطيع فعل ذلك، لكنّها قد تُغضب سياسياً من هنا، أو بلداً من هناك، فلا تفعل.

لم يعُد الوضع يُحتمل، تقول صرخة تويني. النائبة السابقة التي مكثت لدورتين في المجلس النيابي، بعدما ورثته عن والدها، منذ العام 2009، وكانت عضوةً فيه عندما قرّر التمديد لنفسه سالباً اللبنانيين حقّ الاقتراع. لم تُقدّم تويني أيّ مشروع قانون طوال فترتها النيابيّة. لم يسمع اللبنانيون عن إنجازاتها ومشاريعها الخدميّة حينها. ولن يسمعوا اليوم.



يسأل الصحافيون المنتدبون لتغطية مؤتمر نايلة تويني عن وضع الصحيفة في ظلّ الأزمة الماليّة، ويصرّون على السؤال ذاته، تؤكّد "أنّها مستمرّة". لكن، منذ العام 2016، تتأخّر رواتب العاملين في صحيفة "النهار". صُرف عشرات العاملين فيها بسبب الأزمة الماليّة. لا يعرفون إن كانوا قادرين على الوفاء بالتزاماتهم، ولا يستطيعون أن يستشرفوا مستقبلهم القريب. وضعهم أيضاً، لم يعد يحتمل. 

ينشغل العالم باختفاء صحافي سعودي، وسط تقارير مُفزعة عن تعذيبه وقتله وتقطيع جثّته. تُبقي "واشنطن بوست" مكان مقال جمال خاشقجي فارغاً. تُطلق صرخاتٍ لأجل معرفة مصيره، ويسمعها العالم. تصمت "النهار" عن ذلك. فالوضع، قد لا يحتمل. 

مَن يقرأ صحيفة "النهار" يعِ أنّ مبادرة "الصمت" (الصفحات البيضاء) ليست مبادرةً بالمعنى الحقيقي، بل هو شكلٌ مختلف لما تُقدّمه من محتوى يومياً. لم تعد تصرخ كلماتها عن وجع اللبنانيين، ولم يعد قلمها سلاحاً في وجه أي سلطة. يعي اللبنانيّون أنّ صحيفة "النهار" جزءٌ من المشكلة، لا الحلّ. فصمتها اليومي، عبر صفحاتها الممتلئة، يُشبه صمت صفحاتها الفارغة. يُشبه التوريث السياسي وصفقات الفساد والاقتصاد الآيِل إلى الانهيار وأزمة النفايات والتلوّث، والتمديد للمجلس النيابي، وانتشار الجرائم والعنصريّة ضدّ اللاجئين السوريين والفلسطينيين. يُشبه أيضاً، الوضع الذي لا يُحتمل.