اليوم العالمي لحرية الصحافة: الأسطورة الحزينة

اليوم العالمي لحرية الصحافة: الأسطورة الحزينة

03 مايو 2017
أين أصبحت التحقيقات في مقتل محمد تامالت؟ (فرانس برس)
+ الخط -
الشهادة الأولى: "مَن أنا؟ شوكان "محمود أبو زيد". مصور صحافي حر، أعاقب بالسجن لأنني رغبت أن أقوم بعملي التوثيقي، ولأني مصور حر، فلا أحد سمع بما يحدث وحدث لي ، وها هي ضريبة أنني أعمل كمصور حر، أدفع ثمنها من عمري" ــ محمود أبو زيد (شوكان) ــ سجن طره المصري (2014)


الشهادة الثانية: "محمد تمالت، حاول الدفاع عن حقه في التعبير عن رأيه، وعن حقه في محاكمة عادلة بكل الوسائل والطرق السلمية، وآخر ما كان يملك في سبيل ذلك بعد حرمانه من الحرية وهو جسده" ــ "الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان" بعد وفاة الصحافي الجزائري محمد تامالت في السجن.

الشهادة الثالثة: "افتحي بيت عزاء لي، لأنك ستسمعين خبر وفاتي قريباً" ــ رسالة الصحافي الفلسطيني، سامي الساعي، الذي اعتقلته السلطة الفلسطينية.

الشهادة الرابعة: "أنا محتجز في قبر ومصرّ على الإضراب ضد اعتقالي الإداري" ــ رسالة الأسير الصحافي محمد القيق أثناء اعتقاله في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

الشهادة الخامسة: "كنت شاهداً على مقتل عديد السجناء تحت التعذيب على يد القوات الحكومية، كما أني تعرضت لأشد أنواع التعذيب الجسدي، حيث كانوا يعصبون عيني ويعلقونني في السقف، ويضربونني بالعصا، وما زالت بعض أثار التعذيب على جسدي باقية" ــ شهادة الصحافي السوري، شيار خليل خليل، بعد خروجه في العام 2015 من سجون فرع فلسطين التابع لنظام بشار الأسد.

قد لا تتسع صفحات هذه الصحيفة كلها، لنقل شهادات الصحافيين العرب المعتقلين إما في السجون العربية أو في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وقد لا تتسع صفحات آلاف الصحف لقصص مأساوية عن عمليات تصفية صحافيين وتعذيبهم وترهيبهم في مختلف دول العالم. فبينما يحتفل العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة، يعيش آلاف الصحافيين حول العالم في خوف يومي على حياتهم وحياة أسرهم، في ظلّ ارتفاع وتيرة التهديدات الموجهة للصحافيين في مختلف أنحاء العالم. وبينما يهدي وزراء الإعلام في أكثر من دولة عربية، دروعاً تكريمية لصحافيين اليوم، فإنّ زملاء لهؤلاء في نفس الدول العربية، وبعلم نفس وزراء الإعلام، مختفون في أقبية مظلمة، يتعرضون للتعذيب، والاعتقال التعسفي، والموت.
لكنّ هذا العام يبدو أن الأنظمة العربية لن تتصدّر وحدها قائمة انتهاكات حرية الصحافة، بل إن وافدين جدداً بدأوا ينضمون للقائمة، محوّلين العالم كلّه إلى سجن خانق للصحافيين.

كلهم ضدّ الصحافيين؟

في السنة الأخيرة بدا كأن العالم الغربي فقد صوابه: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الشعبية الكبيرة لمارين لوبان في فرنسا، الاعتداءات الهستيرية ضد اللاجئين في العالم، التحريض على النساء وعلى الفقراء وعلى المهمّشين من أقليات عرقية ودينية واجتماعية... وبالتوازي مع حفلة الجنون هذه، أقيمت حفلة أخرى ضحيتها الصحافة والصحافيون. فبدأ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حربه ضدّ حرية الصحافة تحت شعار "محاربة الأخبار الكاذبة". ولم يحتج زعماء العالم إلى الكثير قبل السير على خطاه. فبات استدعاء الصحافيين إلى التحقيق أمراً شائعاً، وبات الهجوم اللفظي السوقي على أي صحافي عادة يومية عند أغلب أركان النظام الأميركي وغيره من الأنظمة. فشرّعت بعض الحكومات قوانين خاصة بهدف "محاربة الأخبار الكاذبة" تتيح للقضاء سجن الصحافي لسنوات بمجرد الاشتباه بنشره خبراً كاذباً.
في أشهر قليلة تدهور ترتيب أميركا في حرية الصحافة، وبات اسم دونالد ترامب مرادفاً لعدو حرية الصحافة.
وتزامن هذا النهج الأميركي الجديد، مع تقارب مع أنظمة عربية مشهود لها بقمعها الأيقوني للصحافة، أبرزها على سبيل المثال النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي. إلى جانب "التقارب الاستراتيجي" بين أميركا والصين التي يعتبر نظامها من الأسوأ في حرية التعبير في العالم. حتى أن إدارة ترامب بدت كمن يستوحي خطوات جديدة في التعامل مع الصحافة، مثل سفر وزير خاجيته ريكس تيلرسون وحيداً إلى الشرق الأدنى لمتابعة الملف الكوري الشمالي، من دون اصطحاب أي صحافي معه.
هذا التقارب بين الإدارة الأميركية التي يفترض أنها صورة "العالم الحر" وأنظمة "فاشية" ودكتاتورية تحديداً في التعامل مع الصحافيين، أصاب منظمات الدفاع عن الصحافيين بحالة من الهلع، فالأيام المقبلة بحسب "مراسلون بلا حدود"، و"مركز حماية الصحافيين" لا تبدو مشرقة.

لماذا تخاف الأنظمة من الصحافيين؟

في التاسع من أغسطس/ آب 1974 وقف الرئيس الأميركي (آنذاك) ريتشارد نيسكون، أمام الشعب الأميركي في خطاب متلفز معلناً تنحيه من منصبه. جاء ذلك بعد الفضيحة التي فجّرها الصحافيان في "واشنطن بوست" كارل بيرنشتاين وبوب وودوورد، عن تجسس إدارة نيكسون على مقر الحزب الديمقراطي. منذ ذلك اليوم، دخلت الصحافة في دائرة "أعداء الأنظمة... كل الأنظمة". بعد هذه الحادثة بـ43 عاماً، تعدّدت الأسرار والفضائح التي كشفتها الصحافة، بمجهود صحافيين في أغلبهم شجعان، ويعلمون جيداً أن ما يكتبونه قد يكلّفهم الكثير. ومن الفضائح المشابهة كانت تدمير صحيفة "لو كانار أنشينيه" الفرنسية لحظوظ، فرنسوا فيون، في الرئاسة الفرنسية، بعد الكشف عن فضيحة الفساد المتعلقة بزوجته بينيلوب.
في العالم العربي كما أغلب الدول التي تحكمها دكتاتوريات أو أنظمة قمعية أو مليشيات، فإنّ أشكال الانتقام من الصحافيين، تأخذ منحى أكثر دموية، وما عملية قتل الصحافي اليمني محمد عبده العبسي إلا شاهداً على هذه الوحشية. فبينما قالت الرواية الرسمية، إنه مات نتيجة سكتة قلبية، تبيّن لاحقاً وبعد تشريح الجثة أن السبب غير دقيق وأن وفاته كانت عملية تصفية، وأنه مات اختناقاً، فيما وجهت أصابع الاتهام للحوثيين.
في الجزائر لا يبدو الوضع أفضل فبعد اعتقال الصحافي، محمد تامالت، بسبب منشور ينتقد فيه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، مات في سجنه، وسط غموض تام لف القضية، التي لم تصل إلى أية نهاية حتى اليوم.
ماذا بعد؟ يقال الكثير الكثير عن كل هذا الموت الذي يحيط بالصحافيين العرب، أو الصحافيين الأجانب الذين يأتون لتغطية النزاعات في العالم العربي فينتهي بهم الأمر جثثاً أو مختطفين. ما يجعل من هذه المهنة، ومن هؤلاء الذي يمارسونها، أفراداً مكروهين من الأنظمة ومن المليشيات ومن الجيوش، ويصبح التحريض على قتلهم، "عادياً"، وسط حروب يسقط فيها العشرات يومياً.


لا حرية من دون حقوق

الموت إذاً يطوف فوق رؤوس الصحافيين، يخطفهم فجأة، لكنّ ماذا عن باقي الجوانب التي تنهك العمل اليومي، تحدّ من الحرية، وتجعل من هذه المهنة مغامرة مفتوحة على كل الاحتمالات؟ يواجه الصحافيون العرب بشكل خاص مأساة متفاقمة منذ ثلاث سنوات تقريباً، ترتبط بغياب الحدّ الأدنى من الحقوق المادية، من الأمان المهني، فتقفل مؤسسات، ويرمى العشرات منهم في الطرقات من دون تعويضات، بينما تعجز الهيئات التي يفترض أن تدافع عنهم عن الخروج بأكثر من بيانات مكتوبة. من لبنان إلى العالم العربي كله تقفل مؤسسات وترمي موظفيها "خالي الوفاض". تلغى مناصب ووظائف، ويبقى عدد كبير ممن خسروا وظائفهم أمام مستقبل غامض تماماً بعدما تركوا دولهم وبنوا حياتهم الجديدة بناء على وظائف اختفت فجأة.
في العام 2017، تبدو الصورة أوضح من أي وقت مضى: الدائرة المغلقة تستمر بالدوران... تدور وتدور فتتغيّر قواعد اللعبة في العالم، ويتغيّر اللاعبون، أما الثابت الوحيد فهي حرية الصحافة التي ينقص من رصيدها القليل كل عام، لتصبح أقرب إلى قصة خيالية، بنهاية غير سعيدة.


المساهمون