الحمض النووي... ذاكرة للمستقبل (2/1)

الحمض النووي... ذاكرة للمستقبل (2/1)

19 مارس 2017
‭ ‭(‬Getty‭)‬
+ الخط -
عندما وضعوا أيديهم على جدران الكهف ورسموا عليها، لم يكن يتخيل السكان القدامى لجزيرة سولاويزي بإندونيسيا، دهشة علماء الآثار أمام هذه الرسومات بعد مرور أربعين ألف سنة. وكذلك من عاصر عهد خوفو، لم يكونوا يتوقعون أن مخططات وصف بناء الهرم الأكبر في الجيزة بالقاهرة، سوف تعرض على الناس بعد 4500 سنة. 

وفي مقابل مقاومة الزمن غير العادية عن الشهادات الأولى من تاريخ البشرية، يبدو عمر وسائط تخزين البيانات الحالية بسيطاً جداً بالمقارنة معها، حيث أصبحت البيانات تتخد شكلا غير مادي على نحو متزايد: أقل من عشر سنوات لمحركات الأقراص الصلبة أو ذاكرة تخزين فلاش. ومن خمسة عشر عاماً وربما تصل إلى الثلاثين لشريط التسجيل المغناطيسي.

فما الذي سوف يتبقى من تراثنا الحالي بعد مرور بضعة أجيال على هذا الزمن؟

قال فيكتور زيرنوف، المدير العلمي لمؤسسة أبحاث أشباه الموصلات (Semiconductor Research Corporation)، وهي مؤسسة للاستشراف العلمي، ممولة من المصنعين والحكومة الأميركية: "إنه قبل 300 سنة قبل الميلاد، كان إنتاج الإنسانية يعادل 1000 بايت من البيانات لكل فرد، أما في عام 1000 ميلادي، فكان نصيب الفرد يعادل 100.000 بايت من المعلومات. أما حالياً، فقد وصل معدل إنتاج البيانات لكل فرد إلى 10 آلاف مليار بايت. ووفقاً لهذه الإحصائيات، فلا محالة سوف تواجهنا مشكلة في تخزين هذا الكم الهائل من المعلومات في وقت قريب!".

في عام 2011، وفي نفس السياق، نشر مارتن هيلبرت (جامعة جنوب كاليفورنيا) وبريسيلا لوبيز (الجامعة المفتوحة في كاتالونيا) ما تم احتسابه عن إنتاج كوكب الأرض من البيانات، حيث توصلا إلى ما يقارب زيتا بايت (Zo) من البيانات في عام 2010، وهو ما يعادل ألف مليار مليار حرف - كل حرف مشفر على ثمانية بت. كما توقعا أنه سوف يتم إنتاج ما بين 300Zo إلى 700.000Zo بحلول عام 2040.



وفي مجابهة الصعوبات المتزايدة التي تواجه مصنعي الأقراص المغناطيسية، وعدم قدرة الوسائل البصرية أن تنافس من حيث الكثافة، فإن الأنظار توجهت أولاً نحو ذاكرة فلاش المصنوعة من السيليكون.

وتتوفر مادة السيليكون بشكل كبير، حيث إن ثاني أوكسيد السيليسيوم يمثل أكثر من ربع القشرة الأرضية. ويتم استخراجه أساساً من الرمل قبل أن يصفى ويشكل في سبائك بدرجة نقاء تصل إلى %99.9999. وتستهلك عملية تصفيته طاقة كهربائية كبيرة، تعادل 2000 كيلواط/ساعة للكيلوغرام من السيليكون النقي.

كما لا توجد مناجم كثيرة تحتوي على مادة السيليكون النقية، والتي تلبي المتطلبات الصناعية.

وتذكر تقارير علمية استشرافية، أن الاحتياجات إلى مادة سيليسيوم لصناعة الإلكترونيات تقدر ما بين 50 مليونا و100 مليار طن لسنة 2040، غير أن ما تستطيع أن تقدمه الصناعة في ذلك الوقت لا يتعدى 100.000 طن.

إن التحول المنتظر في تقنية الحفر الإلكتروني لذاكرة الفلاش من 2D إلى 3D سوف يقلل الاحتياجات من السيليكون إلى عُشر الكمية، غير أن الطاقة المطلوبة لتوفير هذه الكمية تعادل 400 مرة استهلاك الكهرباء العالمي الحالي. وهذا السبب الذي يدفع باتجاه البحث عن تقنية آخرى لحفض البيانات.

ومن جهة أخرى، طور فريق الفيزيائي بيتر كزانسكي من جامعة ساوثهامبتون بإنكلترا، طريقة مبتكرة من أجل مضاعفة كثافة التخزين تصل ما بين 100 إلى 1000 لأسطوانة بلوراي.
وذلك لأن تسجيل بيانات بكثافة في بلور من كوارتز عن طريق ليزر قوي يؤثر محلياً على الخاصية الهندسية لانتشار الضوء. ويسمح هذا الأمر بتسجيل البيانات وفق 5 أبعاد، حيث تمكن الفريق من تسجيل 1 ميغابايت من البيانات خلال ساعة، وهذا الرقم أحسن بمرتين من رقم العام الماضي. ويحاول الفريق الوصول إلى معدل تسجيل يعادل 100 ميغابايت بالثانية.
أما بالنسبة لفيكتور زيرنوف وعدد أكبر من المصنعين، فإنهم يعتقدون أن إيجاد حل طويل الأمد قد يكمن في تكنولوجيا التخزين على الجزيئات ذرية، وتم اقتراح ذلك منذ 1959 من طرف ريتشارد فيمان الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء. وقد تصبح فكرته الأساسية هي المفتاح نحو تطور بحوث في مجال تخزين البيانات ضمن جزئيات الحمض النووي DNA.

ويتكون الحمض النووي من تجمع 4 جزئيات أساسية، وهي: (adenine, cytosine, tymine, guanine). وقد اقترح الفيزيائي الروسي ميخائيل نيمان استخدام الأحرف الأربعة A, C, T وG، من أجل محاكات الأرقام الثنائية 0 و 1 في الحواسيب الحالية. ولعدم توفر وسائل لتحليل (قراءة) وتركيب (كتابة) الأحماض النووية، ضلت الفكرة في الأدراج لغاية ما تم ابتكار أول جهاز لتحليل تسلسل الحمض النووي، وكان ذلك في مختبر Leroy Hood سنة 1980. وبعد ذلك بسبع سنوات، وفي نفس المكان تم ابتكار أول جهاز لتركيب سلسلة الحمض النووي DNA.

ومنذ ذلك الزمن، لم تتوقف البحوث في هذا المجال، حيث تم إجراء أول تجربة لتشفير معلومات غير بيولوجية داخل حمض نووي وذلك سنة 1988. وبمساعدة من جامعة هارفارد، استطاع جون دافيس تشفير رسم صغير يتكون من 35 بايت في جزء من الحمض النووي لبكتيريا حية.

أما في سنة 1994، فقد تمكن عالم الرياضيات ليونارد أدلمان من جامعة كاليفورنيا من إنجاز أول حاسوب بيولوجي في التاريخ باستخدام جزيئات من الحمض النووي لتمثيل البيانات لعملية حسابية بسيطة.

وفي عام 2010، قامت مجموعة كريغ فنتر، من المعهد الأميركي الذي يحمل نفس الاسم، من إنجاز أول ترجمة مباشرة إلى جزيئات بيولوجية لمحتوى بيانات مستخرجة من قاعدة بيانات، حيث تم تركيب جينوم بكتيريا كاملاً وبعد ذلك تم إدخاله ضمن كائن حي. وتم تركيب الجينوم من سلسلة 7920 بت من المعلومات غير البيولوجية، بما في ذلك أسماء الباحثين.



(يتبع الأسبوع المقبل)





المساهمون