بحثنا ولم نجده

بحثنا ولم نجده

31 اغسطس 2016
(جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -



باكرًا جدًا دخل مصطلح "الخطف" إلى قاموسي. لا أذكر تحديدًا كم كان عمري عندما بدأت أفهم أحاديث جدتي وأمي وبعض أفراد العائلة عن عمٍّ لي خُطف بعد ولادتي بأشهر قليلة.

"في المرات القليلة التي التقاك بها قال لي إن التيتين في فمك أكبر منكِ"، هذه الحادثة الوحيدة التي تربطني بعمي والتي تذكرها أمّي أمامي عن مصطفى، عندما كنت أسالها عنه. وكانت تضيف في كل مرة "كان شابا متل القمر".

هكذا بدأت أعرف أن لي عمّا خطفته جهة ما في عزّ شبابه. وبدأت شيئاً فشيئأ أفهم حزنًا مخزّنًا لدى جميع أعمامي وعمتي الوحيدة وجدتي وجدّي. رغم كل محاولاتهم بالضحك دومًا وبعدم الاستسلام للحظات الحزن، كان هناك شيئاً ما يدلّ على وجعهم.

كبرت بعدها كبقية أولاد أعمامي وعمتيّ وكبرت معنا الأسئلة: "شو يعني انخطف؟ مين خطفه؟ معقول ما بتقدروا تعرفوا وينه؟".. طبعا لم نكن نجد أجوبة شافية، أو ربما لم نتمكن يومها أن نستوعب ماذا يعني أن تخسر شخصًا من دون أن يعني ذلك الموت. صرنا نبحث في الصور لنتعرّف إليه ولكي أرى "الشاب المتل القمر" الذي أخبرتني عنه أمي. لا أذكر كيف لكننا أيضًا وجدنا شريطًا مسجلًا بصوته عندما سافر قبل فترة قليلة من اختطافه. كانت جدتي تستمع إلى الشريط ونحن معها. أذكر جيدًا أنّ أغلبية حديثه كانت مزاحاً وضحكاً. كنا نستمع إلى الشريط ونبتسم دون أن نستطيع أن نركب الصوت على الصورة.

بقي عمي صورة وصوتًا بعيدين كثيرًا. لم أجرؤ بعد أن كبرت وفهمت ماذا يعني الاختطاف أن اسأل ابي عنه. كنت أخاف عليه من ذاكرته ومن وجع أعرف أنه لم يشف منه يومًا. كوجع جدتي التي رحلت عن هذه الدنيا بغصة خسارة مصطفى. وحتى اليوم أخاف على والدي عند كل حديث عن تعذيب معتقلين في سجون نظام الأسد الذي يُرجح أن يكون عمّي في واحد منها. أخاف أن يسمع ما الذي كان يحصل هناك. أعرف أنه كبقية العائلة لا يزال ينتظر ولو أن الأمل بات ضيلاً جدًا. وأعرف أنّ هذا الأمل يصبح موجعًا مع أي حديث عن خروج معتقلين لبنانيين من سجون النظام السوري.

والدتي، وقبل أن ترحل عن هذه الدنيا، أخبرتني أنها ذهبت إلى الخيمة التي نُصبت في ساحة الإسكوا لأهالي المفقودين خلال الحرب الأهلية ووضعت اسم عمي وصورته. سألتها لماذا؟ "عندما يعود إلينا يجب أن يعرف أننا بحثنا عنه جيدًا ولم نترك باباً إلا طرقناه". استغربت يومها هذا الأمل بعودته بعد كل هذه السنوات. وعرفت بعدها أن لا شيء يُبقي أهالي المخطوفين على قيد الحياة إلا هذا الأمل، ولو بينهم وبين أنفسهم، كانوا يعرفون أنه لن يتحقق.


المساهمون