جغرافيا القلق

جغرافيا القلق

27 يوليو 2016
(سبنسر بلات/ Getty)
+ الخط -
جغرافيا القلق في بيروت سمفونية متكاملة، من أصوات وتعابير جسدية حادة وأخلاق "ضيقة".

يبدأ الصباح بطيئاً دوماً. بعض الأفكار الهادئة التي تتأرجح بين اليقظة والحلم. بعضها إيجابي، وبعضها الآخر ضبابي كالمستقبل. تنتهي لحظة التفكير على وقع سيمفونية التجار. تتوالى الأبواب الجرّارة في إعلان يوم جديد من أيام العمل. يفتح دكان الحي أولاً. طغى صوت بابه لسنوات على أبواب جيران آخرين، حاولوا فتح محال تجارية وفشلوا. بقي صوت "دكان العيتاني" يعلو في الحرب والسلم... تلاحقك عشرات الأصوات القادمة من الخارج إلى الحمام.

يُفترض أن تكون تلك البقعة الأكثر عزلة في المنزل، لكنها ليست كذلك. ترتدي ما تيسر وتخرج إلى الشارع. ضوء الشمس يشارك في لعبة القلق. تحوّله ذرات الغبار التي يعكسها من مصدر دفء جميل إلى مرآة لضباب المدينة المصطنع. أركب الدراجة وأنطلق. تنتهي الوداعة لحظة استلام الطريق العام، وينطلق السباق من هناك. سيارات سريعة تتنافس للانتصار على الإشارة التي تهزمنا جميعاً.

لا يزال الوقت مُبكراً للتفكير في مناورات القيادة بين سيارات مسرعة، يقودها أناس مجانين​. يتحوّل فن قراءة الشتائم من خلف زجاج سيارات المتوترين إلى فن وضيع. أكاد أشتمّ رائحة القهوة من محل "الإكسبرس" الجديد الذي فتح على الطريق السريع. يكاد يكون المكان الوحيد الذي يرحّب الناس بالزحمة التي يحدثها لأنه يقدم قهوة لذيذة. أتجاوزه بقليل فتنسيني المطبّات الحديدية الصغيرة رائحة القهوة. هنا وقع تفجيران؛ الأول قبل مولدي بقليل، والثاني قبل شهر. لستُ مصاباً بـ"متلازمة راغب علامة"، ولكنّ التفكير في الموت ضحيّة لتفجير عبثي منطقيٌّ.

عليّ أن أسرع لأنّ الوصول إلى منطقة الصنائع مع موعد خروج موكب الوزير يعني "نقعة" في الشمس لعشر دقائق أو أكثر. نحن في بلد تتعطل فيه كامل حركة المرور لمرور شخصية "مهمة ومستهدفة". على أحد أن يهمس في أذن الوزراء والسياسيين جميعاً أن أمنهم سياسي، وأنّ من عاشر الشياطين لن يخشى استهدافه من قبلهم. أودّ لو أخبر نظرية الأمن السياسي لأصحاب العضلات والسترات الذين ينتشرون في الطرقات عند مرور موكب "معاليه". ارحموا أنفسكم يا قوم. لستم جميعاً "رامبو" ولسنا جميعاً أعداء.
على أي حال لم يخرج الموكب بعد. أتجاوز النفق قاطعاً نفسي. بات ذلك التمرين اليومي بديلاً للغطس. وأصبح قطع النفس تلقائياً عند تجاوز الشاحنات. ليس بسبب لسان جهنم الذي يلعق السيارات المجاورة للأشبمان، ولكن خوفاً من رائحة النفايات.

على سيرة القلق، هل مررتم في نفق سليم سلام؟ إنه المكان الأقرب إلى جهنم في بيروت. نفق محدب بلا إضاءة، تعلو فيه أصوات شفاطات الهواء العملاقة من دون أي فعالية. أمّا برتقالي إشارات التحذير في السيارات فيُزيّن النفق بلون القلق والإنذار. تكرّم المتعهد بطلاء مداخل النفق ببعض اللون الأبيض بعد أن ماتت شابة هناك بسبب ارتباكها نتيجة الانتقال من ضوء قوي إلى عتمة مطلقة في النفق. ما أكرمك أيها المتعهد، وما أوسع دهاءك يا وزير الأشغال.

لا يختلف المشهد كثيراً في ساعات الليل الطويلة. يهرب شبان الأحياء من عتمة بيوتهم إلى عتمة الشارع. يبدون كعصابات مخيفة، ولكنهم في الواقع شبان مخنوقون من زحمة المنزل. وعلى الطرقات، يشكّل ضوء القمر في مثل هذه الأيام بديلاً مناسباً لإضاءة الشارع التي قد تقيك شر دهس مواطن أو لاجئ لم يجد جسراً للمشاة فغامر بحياته، وأشركك في اللعبة رغماً عنك.

المساهمون