"مادونا بن طلحة" في ذكراها الـ18:الصورة أقوى من المجزرة

"مادونا بن طلحة" في ذكراها الـ18:الصورة أقوى من المجزرة

24 سبتمبر 2015
الصورة الشهيرة في أحد المعارض عام 1998 (فرانس برس)
+ الخط -

"نحن لا نحب أن نتذكّر تلك الحقبة، لكننا لن ننسى"، لسان حال الجزائريات والجزائريين، بعد ثماني عشرة سنة مرّت على المجزرة التي ارتكبت في بلدة "بن طلحة"، التي تبعد خمسة عشر كيلومتراً عن جنوب العاصمة الجزائر.

المجزرة التي ذهب ضحيتها ما يزيد على مائة وخمسين شخصاً، بحسب منظمة العفو الدولية، وحوالى الأربعمائة شخص، بحسب صحيفة "ذا إيكونوميست"، ستبقى مع مجزرة "رايس" مطبوعة في وجدان الجزائريين الذين عايشوا حقبة العشرية السوداء. وستصبح لاحقاً صورة السيدة التي تغصّ في دموعها متكئة على باب مشفى "زميرلي"، صورة القرن التي جابت العالم، وتصدّرت غلاف 750 صحيفة عالمية، وحصدت جائزة "صورة الصحافة العالمية" لعام 1997.



لم يكن حسين زروار، المصوّر في وكالة الأنباء الفرنسية، يعرف أنّ صورته تلك التي كتب عنها ميشيل غيران في افتتاحية لوموند، صبيحة اليوم التالي للمجزرة "مادونا في الجحيم"، ستمنعه من العودة إلى الجزائر بقرار حكومي وستمنعه من تجديد بطاقته الصحافية، رغم توسّط الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، لدى صديقه ونظيره الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، بتهمة تصوير البلاد بشكل سلبي أمام العالم الخارجي.

الصورة كأداة لخرق الصمت

سجّلت شوارع المدن والبلدات الجزائرية مجازر دموية منذ بداية التسعينيات، واستمر الأمر على حاله لأكثر من عقد من الزمن، في ظلّ صمت دولي رهيب، فكانت صورة "أم السعد" الثكلى على باب المشفى التي تصدّرت الصفحة الأولى في معظم الصحف العالمية، خرقا في وجدان المتلقّي، أوّلا لأنها قولبت الوجع الخاص وحمّلته لبوس وجع جزائري عام، وثانيا لأنّها كسرت عزلة المأساة الجزائرية المعاشة منذ سنوات، وسلّطت عليها إعلاما دوليا تطلّع إلى منسوب الألم بدون القدرة على القول "نحن مسؤولون أيضا". أصبحت الصورة نبشا في الحياة الضائعة لأكثر من مائتي ألف ضحية غابت عدسة حسن زروار أو أي مصوّر آخر عن التقاطها في زحمة الموت المجاني، وغدت الفسحة الزمانية التي أوجدها ذهول العالم وأسفه كافية ليلتقط الجزائريون أنفاسهم، وليتحضّروا لمجزرة جديدة، لن تكون فيها عدسات كاميرا ولا أمّ تبكي أولادها، ولا أجساد تفترش الأرض، قد نالت منها السكاكين، بعد أن نال منها الصمت القاتل.

على أنّ الصورة التي خرقت صمتا طويلا- ما لبث أن استكان مجددا- وأحدثت وعيا في الحيّز المعرفي والصوري المتعلّق بالقضية الجزائرية، لم تسلم من انتقادات جزائرية اتّهمت "إعلاما معاديا" باستغلال المشهد للتدخل في الشؤون الوطنية الخاصة، التقت مع أصوات فرنسية شاجبة للتصوير الأيقوني لرمزية مادونا في الفن المسيحي، تطوّرت لاحقا إلى شكوى قضائية رفعتها "أم السعد" (صاحبة الصورة) ضد المصوّر حسين زروار، مدفوعة من السلطات السياسية والعسكرية في الجزائر، انتهت فصول المسرحية القضائية سنة 2003 بقرار يقضي بإغلاق الدعوى نهائيا مع تبرئة المصوّر زروار.

الصورة أقوى من السكين

لا يمكن قراءة الحدث -المجزرة في بنطلحةـ من دون العودة إلى "مادونا" وربطها كسلاح حيّ يواجه سلاح المجزرة الأول: السكين. لم تعد الكاميرا مجرّد ناقل للصورة، ولم يعد بالإمكان اختصار دورها بفكرة البث الوقائعي. الصورة في معناها التجريدي رفعت الدم من مكنون عدميّ إلى دليل حسيّ، يحيي إحداثيات الموت، ويكثّف المجزرة وفق معطيات لا تحتمل التشويه. لم يعد مهماً من مات، هل هم أولاد "أم السعد" أو أولاد شقيقها، لم تعد هوية الضحية مسألة خلافية، لأن الجرح الجزائري أصبح مفتوحا على العدم المطلق الذي يملؤه الموت، على الفراغ الذي تتكدّس فيه ضحايا كانت "أم السعد" عيونهم التي انطفأت، وصوتهم الذي خفت، وقلبهم الذي سكت.

بعد خمس سنوات على المجزرة، استعاد النحّات والسينمائي باسكال كونفير (Pascal Convert) الصورة الأيقونية في غاليري بمونتريال، واستكمل الأمر بفيلم حمل عنوان "مادونا بنطلحة"، أجرى فيه حوارا مع المصوّر حسين زروار الذي آثر الصمت لسنوات، وأورد فيه تحليلات لمختصّين في فهم الصورة والتشفير، مثل كريستيان كوجول، وآراء للفيسلوف والمؤرّخ الفني جورج ديدي-هوبرمان، وكاتب أول مقال عن الصورة في لوموند ميشيل غيران.

في العمل نفسه، يقوم المخرج كوفير بتماثل بصريّ يجمع ثلاثة مشاهد حصلت ثلاثتها على جوائز عالمية: الأول للمصوّر جورج ميريلون، يظهر فيه الناشط الصربي نسيمي الشاني المسجّى أرضا تتحلّق حوله نساء، وعلى رأسه سيدة تنتحب في ما عرف بـ"la Pieta du Kosovo". الصورة الثانية التقطها مصوّر فرانس 2، طلال أبو رحمة، للطفل الفلسطيني محمد الدرة، محاولا الاحتماء بوالده، ثم مقتولا برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي. أما الصورة الثالثة فهي "مادونا بن طلحة". مشاهد موت فردية استطاعت الكاميرا أن توثّقها وتحوّلها إلى مأساة كبيرة، حتى أصبح بالإمكان القول إنّ العدسة تعولم المجزرة وتنصف ضحاياها.


اقرأ أيضاً: المجر تحذّر اللاجئين السوريين عبر الصحافة اللبنانية

دلالات