"كلنا للوطن": ليس كلنا... جزء منا فقط

"كلنا للوطن": ليس كلنا... جزء منا فقط

19 نوفمبر 2015
(راتب الصفدي/الأناضول)
+ الخط -
كلنا للوطن للعلى للعلم/ ملء عين الزمن سيفنا والقلم/ سهلنا والجبل منبت للرجال/ قولنا والعمل في سبيل الكمال/ كلنا للوطن للعلى للعلم/ كلنا للوطن. انتهت موسيقى النشيد الوطني اللبناني، صفّق الحضور وجلسوا، وبدأ العرض.

لا يهمّ المكان ولا الزمان ولا الحدث، لكنّ الأغلب أنّ مناسبةً رسميّة على وشك الانطلاق. 

في الذكرى الثانية بعد السبعين لاستقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي، لا احتفال رسميّاً هذا العام أيضاً بسبب الشغور في منصب الرئاسة. لكنّ الجيش اللبناني قرّر ألاّ تمرّ هذه المناسبة بفراغ تام، فأطلقت المؤسسة العسكرية ملصقاً بمناسبة الاستقلال، ملصقَ "كلنا للوطن". فجمعت عناصر القسم الفني في الجيش 96 صورة للمصنّفين "شهداء الوطن".

أغلب هؤلاء سقط في الحرب الأهلية، يعني على يد لبنانيين وتنظيمات لبنانية. يميني قتل يسارياً والعكس، مسلم قتل مسيحياً والعكس، يميني مسيحي قتل يمينياً مسلماً والعكس، يميني مسيحي قتل يمينياً مسيحياً ثانياً والعكس، "وطني" قتل "وطنيّاً" آخر والعكس، "مقاوم" يميني قتل "مقاوماً" يسارياً دون حصول العكس. بشير الجميل، طوني فرنجية، رشيد كرامي، إيلي حبيقة، كمال جنبلاط، جورج حاوي، عباس الموسوي، حسان اللقيس، وعشرات ضباط الجيش اللبناني وضباط وقادة في المليشيات اللبنانية.

ارتأت قيادة المؤسسة العسكرية جمع هؤلاء "الشهداء" في إطار واحد بهذا الاستسهال والهدوء. فأعادت تشكيل الحرب الأهلية وتلوينها وتقديمها على أنها فخر الصناعة اللبنانية، وتليق بذكرى الاستقلال. من دون أن يلغي ذلك طبعاً وجود ضحايا فعليين وأبرياء من بين الصور المجتمعة في هذا الإطار.

اختلط الجميع... مجرمو حرب وزعماء مجموعات مسلحة وأبرياء. والخلط واجب طالما أنّ العنوان "كلنا للوطن". كلنا يعني كلنا، أي نحن جميعاً، تماماً كما هي حال شعار "كلن يعني كلن" والذي يرفعه الحراك الشعبي بوجه زعماء وأعضاء الطبقة السياسية مجتمعة، أي هم جميعاً.

كان يمكن للوحة "كلنا للوطن" الصادرة عن المؤسسة العسكرية، أن تكون أكثر تعبيراً وواقعية ودلالة، من خلال إضافة باقة من الصور الأخرى. صورة توفيق خوام، العجوز الذي حرق نفسه تحت جسر في العاصمة بعد ان ابتلع ليتراً من البنزين، لأنّ الفقر أكله والمرض نخر جمجمته. إيللا طنّوس، الطفلة التي فقدت أطرافها قبل أن تكمل عامها الأول، وذلك نتيجة خطأ طبي. جورج الريف، المواطن الذي قتله مجرم بوحشية في شارع في بيروت نتيجة خلاف على أفضلية مرور. صور رلى يعقوب، فاطمة بكور وكريستال أبو شقرا، وغيرهن من النساء اللواتي قُتلن نتيجة العنف الأسري والزوجي. طارق الملاح، الناشط واليتيم الذي تعرّض للاغتصاب والتحرّش في أحد دور الأيتام الدينية. صور جميع النساء اللبنانيات المتزوّجات من أجانب والممنوع عليهن منح الجنسية اللبنانية لأسرهن. صورة عادل ترمس، والد طفلين، الذي لفّ أحد انتحاريي برج البراجنة بجسده ومنع الموت والأذى عن عشرات المواطنين الموجودين حوله. وصورة محمد قصير، الذي أطلقت القوى الأمنية النار على رأسه في إحدى تظاهرات "الحراك الشعبي" في بيروت، والذي لا تزال حالته الصحية حرجة منذ الأسبوع الأخير من أغسطس/آب الماضي.

هؤلاء، وغيرهم كثر من المهملين والمظلومين، شهداء "كلنا للوطن" وأبطاله. لكن يبدو أنّ ثمة من قرّر أنّ البطولة لا تجوز سوى لأصحاب المناصب أو حَمَلة السلاح فقط، بغض النظر عن هوية حامله وإلى أي هدف يوجّهه. فهذا نتاج العسكر ومؤسستهم. ربما القيّمون على ملصق "كلنا للوطن" العسكري، مصيبون. فاستقلال مماثل في دولة ونظام مماثلين لا يليق أساساً بتوفيق وإيلا وجورج ورلى وفاطمة وكريستال وطارق وعادل ومحمد. يتضّح هنا، أنّ "كلنا للوطن" لا تعني "كلنا"، بل جزءاً منا فقط.


اقرأ أيضاً: هذه بلاد ابني

المساهمون