بين باريس وبيروت قاتل وضحايا يتشابهون.. ماذا عن الإعلام؟

بين باريس وبيروت قاتل وضحايا يتشابهون.. ماذا عن الإعلام؟

17 نوفمبر 2015
تشابه بين مشهدي بيروت وباريس (Getty)
+ الخط -
لم تكن دماء الضحايا في ضاحية بيروت الجنوبية قد جفّت حتى سال دم كثير في شوارع باريس ليلة الجمعة الماضي. المشهد الذي بدا قاسيا ومؤلما في المدينتين لم يغيّر من الطبيعة الدراماتيكية في كلا البلدين الجريحين، فحضرت الدموع والأحزان والمآتم، مع تبني الجهة الإرهابية نفسها للاعتداءات. إلا أنّ التغطية الإعلامية فرضت نفسها كحالة متمايزة في باريس، شرّحت الإعلام اللبناني وتعاطيه مع الحدث المؤلم وشخصياته.

لم يكن مسرح الجريمة في بيروت ليختلف كثيرًا عنه في باريس بالرغم من حضور الفوارق البنيوية في الاقتصاد والثقافة والعمارة بين البلدين. فبرج البراجنة ليست باريس إطلاقا والعكس صحيح، لكنّ الناس هنا يشبهون الناس هناك: الخارجون من أعمالهم والذاهبون إلى منازلهم والباحثون عن رزقهم والعائدون من دوام جامعي إلى مرتادي المطاعم والمقاهي أو حتى دور العبادة.

الحركة التي تشغل حيّز المكان في البرج والتي قد يقطعها فعل الموت المتجدّد في بلد مجاور أو اضطراب أمني داخلي، لا تلبث أن تعود بزخم أكبر طبع تلك المنطقة الشعبية وجعلها شريانًا اقتصاديًا يشارك فيه عمّال لبنانيون من طوائف مختلفة وسوريون وفلسطينيون أصبحوا أهل تلك المنطقة منذ سنوات طويلة. في الشكل تبدو شوارع باريس المستهدفة في Bichat و Charonne ومسرح الـBataclan شوارع ذات طابع ليبرالي أو تقدّمي ومراكز يرتادها الشباب بشكل خاص في نهاية الأسبوع لاحتوائها مقاهي ومطاعم معروفة، ما جعلها متنفسا طبيعيا للفرنسيين الراغبين في قضاء بداية ممتازة لعطلة نهاية الأسبوع.

اقرأ أيضاً: الإعلام الانتقائي: تغطية هجمات باريس أولويّة

إذن، بالرغم من اختلاف نشاط العاملين في مسرح الجريمة نتيجة اختلاف البنية الاقتصادية والتركيبة الطبقية للمنطقتين المستهدفتين، يبقى إنسان بيروت الباحث عن موارد الحياة هو نفسه إنسان باريس الباحث عن فرح الحياة، هو نفسه الشاب الذي خرج من الجامعة اللبنانية ومرّ على الفرن قبل أن يدخل إلى منزله فسقط شهيدًا. وهو نفسه الذي حلم أن يشاهد مباراة فرنسا ضد ألمانيا في ستاد دو فرانس فادّخر من مصروفه اليومي وخرج من الملعب ليعاجله الموت الانتحاري. هو نفسه عادل ترمس الشاب الذي رمى بنفسه على الانتحاري فافتدى عشرات المواطنين بجسده الممتلئ شهامة، نفسه كان حاضرا في مسرح باتاكلان، واسمه توماس، ثلاثيني تصدّى بجسده لرصاصات الإرهابيين لينقذ صبية (إليز) عرضت شهادتها بالدموع على الشاشة الفرنسية في اليوم التالي.

على أنّ تماثل الضحايا وانكماش الموت في شقيّه الحاضر (جسديا) واللاحق (حزنا) وتشابه الشخصيات (acteurs de scène) لم يمنع من تنافر إعلامَين اثنين بشكل دلالي زادا المشهد اللبناني فداحة وألما ومنحا المشهد الفرنسي احتراما ونزاهة. إذ حضر الإعلاميون في باريس من مسرح الاعتداءات بعيدا عن تصوير مشهد الضحايا الذين سارعت الفرق الطبية إلى تغطيتهم بأكياس وإبعادهم عن عدسات الكاميرا. لم يذهب المراسلون إلى الجرحى ليأخذوا مقابلات فورية، ولم يشأ مراسل بي إف إم (BFM) أن يتحدّث إلى الطفل (آلان) الذي بحث طوال ساعة عن أمه ثم علم بفقدها. لم يسأله لا عن بابا ولا عن ماما، اكتفى بالدموع من بعيد وبالحديث مع الأطقم الطبية وفرق الشرطة والشاهدين على المذبحة.

بصمت كبير غطّت القنوات الفرنسية ألما جماعيا أصاب فرنسا كلها، وبسياسة السكوب والتطفّل والاستغلال الرخيص غطّت القنوات اللبنانية تداعيات الموت في الضاحية الجنوبية لبيروت. فكان الناجون في البرج شهداء اليوم لا شهود الأمس فيما انسحب الهدوء على استديوهات باريس فأعطى الإعلام الفرنسي الموت حقه ومنح الضحايا سلاماً.



اقرأ أيضاً: على هامش "تغطية الموت" المباشر

المساهمون