الانتحار في غزّة... الرحيل في غير مواسم الحرب

الانتحار في غزّة... الرحيل في غير مواسم الحرب

27 سبتمبر 2017
(تصوير: توماس كوكس)
+ الخط -
"وماذا سأقول حين تسألني عن بلادي؟ عن شاطئ الطيّبين الذين يراوغون الموت والطغاة والغزاة، لا لشيء سوى رغبتهم في اختيار موتهم بأنفسهم، وعن موتنا كي ترى دمنا المسفوك ثمنًا لحنطة الطغاة، لكنها لم ترنا".

(1)
كتب جاك بريفير يوم كانت السوريالية مذهبه: "حين تصبح الحياة مملّة، فإن الموت يضحي تسليتها الوحيدة"، يقف وراء كلمات بريفير تلك قرن من الصراعات البشرية، استعمار أوروبي هَلك الإنسان، حربان عالميتان، حضارة غربية لا تمثّل -بالنسبة لبريفير ورفاقه- إلا شيئًا واحدًا، تقدم خاطئ نحو هلاك الإنسان والعالم، وخط إنتاجٍ مُستمر للموت بشتى صوره، وسرقةً للإنسان وعواطفه وغرائزه ولاعقلانيته وجسديته وحتى توحّشه.

(2)
منذ أن جرف سيل الانتحار النفسي الجماعي مضارب البلاد العربية، بعد خفوت الحلم الثوري، ونمط العلاقات الاجتماعية الجديد والمرهق الذي فرضته مواقع التواصل الاجتماعي، الإقامة الدائمة في مخيّمات القلق، والذهاب المستمر بين اليأس والاكتئاب، وفي كل مرة يقرّر فيها شابٌ عربي أن يأخذ الحياة إلى منتهاها، بيديه العاريتين، يدور نقاش صاخب ووقح في أكثر الأحيان حول ذلك الفعل، ينقسم فيه أغلب الجمهور إلى اتجاهاتٍ عدّة في النقطة التي ينطلق منها -ويتمركز حولها- النقاش والتعقيب على الحدث، إن كان يعكس ذلك النقاش بشكل أساس معتقدات كل فريق ديني، ومواقفه الأخلاقية وأحكامه الاجتماعية وانطباعاته عن البشر والحياة، فهو كذلك يعكس حالة الانحطاط الذي وصلت إليه إنسانيتنا.

تأخذ أول تلك الاتجاهات القضية كليةً إلى موقف الشريعة الإسلامية من فعل الانتحار، ومسوغاته الشرعية -إن كانت هناك مسوغات- وهل المنتحر كافر؟ وهل من الممكن أن يدخل المنتحر الجنّة؟ وكل تلك الأسئلة والإجابات والجدالات التي تنتهي دومًا بحجز مكان للمنتحر إما في جنةٍ أو نار، واللتان –وللسخرية- لا يملك أي من أوصياء الله هؤلاء أي سلطةٍ لتوزيع أنفسهم هُم عليها، لكنهم يتبجّحون في توزيع الناس عليها.


أما ثاني تلك الاتجاهات، فقد تلحف حول سؤال، هل المنتحر جبان أم شجاع؟ هل فعل الانتحار بطولي بالفعل؟ وتحت هذا النقاش تقبع الكثير من التفاهة والوصاية الدكتاتورية على أفعال البشر، ونقاش لا يحيل "المنتحر" إلا جثةً تُنهش، ويقف كل أولئك ليبدؤوا في إبداء مواقفهم وآرائهم وإطلاق أحكامهم، وحتى "رمسنة" فعلك بصورةٍ لا تدعو إلا للقيء.

ويكتسب هذا النقاش في سياق معقد مثل السياق الفلسطيني بعدًا إضافيًا، حيث يُسقط دور "البطل" بالمقارنة بين الشهداء والمنتحرين، على سبيل المثال، لكن لماذا لا يُمكن أن نعتبر أن الفدائية والانتحار، هما تقرير لإجابة الموت التي يريدها الفدائي والمنتحر في وجه الاحتلال والحياة، و"تأكيد على الاحتمالات المفتوحة، وتطهيرٌ للقلب من الرغبة الإنسانية، مهما أغرقت هذه الرغبة في النبل"، ما دمنا لا نملك إلا فرصتين وحيدتين لمحاورة الحياة، بالميلاد والموت، كما كتب وفعل الشاب القاص مهند يونس في ساعات الصباح المبكرة من يوم التاسع والعشرين من أغسطس/آب الماضي.

ثم أنت لا تفهم كيف أن أولئك الذين ضجّوا الدنيا بشكواهم غير المنقطعة من الاستخدام الخطابي والأداتي والتنظيمي لقضية غزة وعذابات أهلها من قبل خصومهم، قد أضحوا يأكلون لحم أبناء غزة المُرّ من أجل تصفية حساباتهم السياسية والدينية والترويج لقضاياهم ولأنفسهم، والنيل من خصومهم، أي قبح ذلك؟ ذلك قبح لا يضعك إلا أمام اختيارٍ حاد بين السخط وبين الانتحار كمدًا.

(3)
كيف نقرأ قصص مهند، كحياة لم تكتمل، أم كقصص اكتملت بالموت؟
كل أولئك الذين عرفوا مهند من الجلسات المطوّلة، والكلام العابر والبسيط، من المراسلات الخفيفة والثقيلة، من قصصه التي حرست ليله من الأحزان الطويلة، ومن الأمل المتكاسل، ومن اليقين المحمل بالظنون والجنون، عرفوه شابًا غير عادي يعيش في مدينةٍ غير عادية، شابًا لم يحبه أمير المنطقة الفلانية في الحزب الفلاني، ولا قائد المنطقة في الحزب العلّاني، ولا متصدرو ساحات الثقافة المأجورة والرخيصة في هذه المدينة، عرفوه شابًا، مُثقلًا بأسئلة صعبة، نهشت عقله، وأثقلت خطاه، حتى كل أولئك الذين عرفوه، لن يعرفوا تمامًا، لماذا فعل مهند ما فعل، لأن ذلك أمرٌ لا يخصُّ إلا شخصًا واحدًا، كان وحيدًا في وجه البحر، وبحرًا في وجه المدينة.

لماذا أضحى الرحيل عن هذه المدينة في غير مواسم الحرب، رحيلًا مُثقلًا بالخيانة، وإذنًا جبانًا للتغيب عن محرقتها القادمة، وما زلنا نكابر، وعلى ما يبدو سنظلّ كذلك، حتى تسقط خشبة المسرح فوق رؤوسنا.

(4)
هذه ليست مساهمةً لا في دعوة بريخت إلى تفكيك البطل وأنسنته في بلده التعيس الذي لا يحتاج إلى أبطال، ولا في إخراج البطل التراجيدي من صورته عند درويش، البطل الذي مل من دوره، ومل من المراوغة بين دورَي البطل والضحية، ولم يعد شبقًا لأن يبقى بطلًا ولا ضحيةً، يريد أن يغدو عاديًا.

لكن ذلك تأكيدٌ على حقيقة -شئنا أم أبينا تصديقها- أن هذه بلدة حُبلى بالأبطال العاديين والتراجيديين على حد سواء، ولكن ماذا سيصنع كل أولئك الأبطال "فيما تبقى لنا من هدوء... وقيلولة بين أسطورتين؟".

المساهمون