شعر بلا عروض؟ أستغفر الله

شعر بلا عروض؟ أستغفر الله

30 اغسطس 2017
(تمثال المتنبّي في العراق، تصوير: جوزيف عيد)
+ الخط -

مثل فيلم خيال علمي، يعود البطل فيه بالزمن إلى الوراء؛ في يده هاتف محمول، وفي أذنه سماعة لاسلكية، بينما يتراصف الناس أمام مذياع خشبي مندهشين بالصوت الخارج من الصندوق، يحدث اليوم ذلك مع عامة الناس في مواقع التواصل، بعدما أتيحت لهم الفرصة بأن يصبحوا أصدقاءً لأدباء وفنانين، غادروا الخيمة إلى المدينة واستبدلوا الجمل بسيارة كهربائية من شركة "تيسلا".

كيف يُمكن أن تكون القصيدة بلا وزن ولا قافية؟ يسأل الناس، ويكرّر الشعراء مرّة بعد مرّة: يا عباد الله لمَ يحدث هذا اليوم، وقصيدة النثر ليست بدعتنا، في أواخر القرن التاسع عشر كان روفائيل بطي في العراق والريحاني في لبنان يكتبان النماذج الأولى من قصيدة النثر، في عام 1900 نشر الشاعر الفرنسي شارل بودلير كتاب قصائد نثرية بعنوان سأم باريس، ثم صارت قصيدة النثر فرعًا من جنس الشعر حاله من حال الموزون والمقفى.

لكن التبرير لا يقنع، ولن يقنع، "هذا كلام يُمكن لأي شخص كتابته"، يقول أحدهم، ويبدأ بصف مجموعة من العبارات غير المفهومة واحدة فوق الأخرى، ويقول انظروا هذه قصيدة وأنا أصبحت شاعرًا مثلكم. توقّف الشعراء عن الرد وأصبحت هذه الحكاية طرفة بينهم، وتم إقصاء شعرهم الجيّد منه والسيئ من كتاب الأدب الجديد الذي ألّفه عوام الفيسبوك والتويتر.

ثم ظهرت صيحة جديدة، بدأت بجدل قديم قائم على أن التجريد خربشة طائشة بلا معنى، ثم انطلقت الفتاوى لتشمل السريالية بدعوى أنها أشكال غير مفهومة، ثم الانطباعية بدعوى أنها لا تشبه الواقع، وبدأ وسم أسماء مثل فنسنت فان كوخ بالتفاهة والسطحية، فيأتي فنان أو متابع فني ليسأل، ما الفن في نظرك إذن؟ يقول العامي: الواقعية فقط. لا حول ولا قوة إلا بالله.

في خمسينيات القرن الماضي نشر الكاتب الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو كتابه "النص المفتوح"، وتحدّث عن تداخل الأجناس الكتابية ببنية واحدة، تشمل الشعر والقصّة والمقال، ومنذ ذلك الوقت والكتّاب يواصلون تحرير النص الأدبي من قيوده، وفتحه على السرد والإسهاب والبوح قدر الإمكان. صارت القصيدة تروي قصّة، والقصة تختزل لغتها في سطر أو آخر لتتضمّن مقطعًا شعريًّا، والمقال يُفتتح بمقدمة قصصية، وبينما يذكر الوقائع والإحصائيات يخرج بوصف شعري، عاشت الأجناس الأدبية في بيت واحد كالإخوة يتبادلون بينهم الثياب.

في التشكيل لم يبق طريق تجريبي لم يُسلك، هذا الضجر العالمي، يبحث في مواطنه الإبداعية عن الرؤى الجديدة، وربما يتمادى أحيانًا في منح المتلقي ما يستحيل حسه أو فهمه، لكن من ناحية أخرى فهو يفتح الأفق كل يوم على سعة أكبر، فنرى دور الفراغ في اللوحة، ومعنى الحذف في النحت، واستغلال الفضاء المحيط بالعمل الفني، كوضع كومة رمل أسفل لوحة صحراء، تأثيث صالة العرض بالأعمال وفق هندسة دقيقة، لتصبح الصالة نفسها عملًا فنيًا مركبًا بتفاصيل محتوياته.

قدما العالم المجنون مُسرعة بالركض، فكل ما في العالم يتسابق، قرأنا قبل مدّة عن ذكاء اصطناعي اخترع لنفسه لغة، ورأينا صور طابعة تستنسخ أوعية دموية وأعضاء بشرية، لم يبق على هذه الأرض من يلتفت إلى الوراء، سوى هذه البقعة المظلمة من الأرض، التي لا تنفك أن تركض عكس اتجاه العالم، لتغوص في وحل الأمس خطوة إثر خطوة، هذا الوعي الرجعي والذائقة التلقينية، يخبرانا بالكثير عن واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، يخبرانا مثلًا لمَ لا يزال المسلم العربي يأكل عددًا فرديًا من التمرات، ويبحث في كتب السيرة عن الأكلات المفيدة بدل قراءة البحوث التي تنشر كل يوم.

المساهمون