ساعة التريند الرملية

ساعة التريند الرملية

31 يوليو 2017
(Matt Kenyon)
+ الخط -

تضرب عاصفة ما الأرض، تتهدّم المئات من المنازل ويتشرد عشرات الآلاف، جمعيات الإغاثة تعلن الطوارئ للبحث عن المفقودين وإغاثة من بحاجة إلى مساعدة طارئة، تشتعل مواقع التواصل بدعوات التبرّعات، وتبدأ الوفود بالقدوم حاملين الكساء والغذاء والدواء، وطبعًا الهواتف المحمولة، تتحوّل المنطقة المنكوبة إلى موقع تصوير واستوديو للسيلفي، ثم بعد مضي 48 ساعة، يخلو المكان من الوفود ويبقى المتضرّرون حائرين. أين ذهب الجميع؟ يسأل أحدهم، فيردّ آخر: لقد انتهى عمر التريند، ربّما أنجبت مطربة بوب طفلة، أو طُلقت ممثلة، أو انتقل لاعب كرة قدم من نادٍ إلى آخر، أو ورد خبر عن فضيحة ما في مكان ما.. لا أدري، لكن المؤكّد أن بوصلة التريند توجّهت إلى ناحية أخرى.

الساعة الرملية للتعاطف الإنساني مضبوطة بالحد الأعلى على يومين فقط، إنها تُقلب رأساً على عقب فور حدوث الكارثة، ثم يبدأ العد التنازلي لعمر الحدث، لم يعد هناك خبر يعيش أكثر من هذه المدّة، لو اندلعت اليوم حرب عالمية ثالثة، لن تصمد أخبارها على وسائل التواصل مدّة أطول، حين يستمر القصف أو الدمار، ستُنشر تغريدة من بيت مهدّم تتحدّث عن أمر آخر تماماً.

هذا ما حصل بالضبط على سبيل المثال مع تداول وسم تحرير الموصل، فالوسم لسوء الحظ انطلق قبل الإعلان الرسمي عن التحرير بثلاثة أيّام، في اليوم التالي بدأت الجماهير في الاحتفال، وشارفت الاحتفالات على الانتهاء في اليوم الثالث، وعندما أعلن بيان التحرير الرسمي، كان التريند متوجّهًا إلى منطقة أخرى، ولم يشارك الجيش الذي خاض حربًا طاحنة ضدّ وحوش إنسانية في احتفاله أحد، لأن التريند "فيسبوكي وتويتري" كان مبكرًا بعض الشيء.

هكذا أصبح الرأي العام عجوزًا منهك الأطراف، نفسه قصير، وتأثيره مقتصر على ثرثرة مراهقة. أمس رأيت صورة ناشط في تظاهرة حاشدة، كانت الصورة يتيمة ووحيدة، خالية من التفاعل الافتراضي، لأن التفاعل سرقته مباراة برشلونة وريال مدريد، كل شيء يُقاد بمهزلة إلى منطقة تفاهة، كأحداث القدس الأخيرة، التي أشعلت تراشقات بين مجموعة صبية لا يفرقون بين الانتحاري الفلسطيني والمواطن الفلسطيني، ولا يفرّقون بين الديانة اليهودية والصهيونية الإسرائيلية، ويأخذ معظمهم معلومته عن الأزمة من صفحة أفيخاي أدرعي، لأنها مطرزة بالظرافة.

ساعة التريند الرملية تعيد كتابة التاريخ بـ 240 حرفًا على "تويتر"، وبعدة أسطر غارقة في الأخطاء الإملائية والنحوية والأيقونات التفاعلية على "فيسبوك"، الصحف لم تعد سوى ممسحة لتلميع النوافذ وسفرة يفرش عليها الطعام، وصفحاتها الافتراضية على وسائل التواصل اقتصرت على سباب إثني وطائفي وعرقي بين حفنة من الصبية. المقال الطويل صار منظرًا بشعًا ومصدرًا للصداع، بينما الكتب التي تُقرأ هي فقط التي تصلح لأن توضع بجانب فنجان قهوة في صورة على انستغرام يهمشها تعليق "قراءة_تايم".

قيل سابقًا لا يحجب الغربال الشمس، لكن ذلك صار الآن ممكنًا، لأن صورة عارية لغادة عبد الرازق تساوي بأهميّتها خبرًا عن مجزرة في سورية أو وباء في اليمن، بل من الممكن أن تتفوّق حلمة عبد الرازق على الكوليرا، لأنها تجلب عددًا أكبر من التعليقات والإعجابات وإعادة التغريد، هكذا شاءت ساعة التريند الرملية.

المساهمون