الحديقة التي قُتلنا لأجلها

الحديقة التي قُتلنا لأجلها

06 يونيو 2017
(هاني عبّاس / سورية - فلسطين)
+ الخط -

مثلما اعتدنا سابقًا على ابتسامة جارنا الطيب كل صباح وهو يقول: "صباح الخير يا جار"، علينا اليوم أن نعتاد على جار آخر، بل جيران كثر، يعبسون في وجوهنا ثم يقولون: "الله لا يسعد هالصباح"، وأكثر من ذلك؛ كأن تتلقى شتيمة أو شتائم تحتاج منك إلى قواميس لتفهم أصلها وفصلها، وأكثر من ذلك كأن ترى جارك يشهر سلاحًا في وجهك، ويريد قتلك.

الجار الأول هو نفسه الجار الذي عشنا معه في الحي الذي نسكن فيه، بينما الجيران الآخرون هم من نعيش معهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا بالضرورة لا يعني خلو تلك المواقع من نموذج الجار الطيب، وما أكثرهم، إلا أن الأثر الذي تـُحدثه في النفْسِ شتيمةٌ واحدةٌ أو تهديدٌ من الصعب أن تمحوه ألف كلمة طيبة وروتينية.

بكل بساطة تستطيع رد الشتيمة بمثلها كما هو حال التحيّة، إلا أن ذلك لن يغير في الأمر شيئًا، ستكون ببساطة بالنسبة للآخر لست أكثر من جار شَتّام، تمامًا مثلما هو بالنسبة لك، هذا الأمر فرضه الواقع الافتراضي الجديد الذي تجاوز فكرة التواصل الطفولية التي رُوّج لها منذ سنوات، أي التواصل مع العائلة والأصدقاء القدامى منهم والجدد، لأن هذا النوع من التواصل محكوم بالمحدودية والملل.

لم تعتد الشعوب -خاصة شعوبنا العربية- أن تقول رأيها في كل كبيرة وصغيرة، كان الأمر أشبه بحلم يستحيل تحقيقه، وعندما تحقق اليوم بدا وكأنه صار مصدرًا جديدًا للإحباط؛ فبالإضافة إلى سهولة تناقل الفنون الجميلة والآداب والأفكار الإبداعية، طفت على سطح المشهد حالة منفّرة من التشدد أو التعصب، التعصب للدين، للطائفة، التشدد للحزب، للرئيس، للمرشح، لفريق كرة قدم محلي أو عالمي، كلها ليست وليدة اللحظة، وقديمة جدًا، لكنها الآن تمتلك ميزة الإفصاح المستمر لعموم الناس، ميزة الصوت العالي؛ ما جعلها تتضخم أكثر وتزيد المتشدد تشددًا والمتعصب تعصبًا حتى ولو بشكل وهمي.

الحكومات العربية فشلت بامتياز في التعامل مع هذا العالم الجديد، فشلت في اختيار تموضعٍ جديد لها بأن تسمح لأبنائها أن يلعبوا في الحديقة التي اكتشفوها مؤخراً بجوار بيتهم، الحديقة التي لم يعد بالإمكان إخفاؤها عنهم، ووصل الأمر ببعض الأنظمة بأن قتلت الأولاد ودمّرت الحديقة وهدمت البيت فوق رؤوسهم، ونجحت في أن تجعل قسمًا من الأولاد يلعنون الحديقة بمناسبة ومن دون مناسبة، ويلعنون الساعة التي اكتشفوها فيها، كما حدث ويحدث في سورية اليوم.

فالشكل القديم لتدفق المعلومات كان حصريًا بيد الأنظمة، تلفزيون الحكومة وراديو وجرائد ومؤسسات الحكومة ترسل المعلومات والأفكار والفنون التي تراها تناسب الشعب، والشعب يمتصها ويهضمها ويتبناها حتى، من دون أن يملك القدرة على الرد أو إبداء الرأي، لذلك كنا محكومين بالخطاب الذي يعزز شرعية السلطة إلى درجة غير معقولة وغير منطقية ومضحكة في بعض الأحيان، بأن نبايع رئيسًا –حافظ الأسد- إلى الأبد مثلاً، عدا عن هذه المسألة، كان الشعب يردد نفس المقولات على قلة عددها، يحفظ نفس الأغاني ويحب ويكره نفس المطربين، ويكره نفس المعلّق الخالد على مباريات كرة القدم، في المباريات الشعرية في الأمسيات والسهرات الاجتماعية كان الناس يقولون نفس أبيات الشعر، في حصص الرسم الأطفال بكل المدارس يرسمون نفس المنظر الطبيعي، في ظاهرة غريبة.

تغيرت قواعد اللعبة هذه، ولم يعد الشعب متلقيًا فقط، بل أصبح يستطيع أن يرد على ما يتلقاه، ويستطيع أن يحوّل الحكومة في كثير من الأحيان إلى متلقية فيلعب دور المرسل، مع تنوع وغنى مصادر المعلومات وسهولة الوصول إليها بعد انتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتطور أجهزة الاتصالات المزودة بالكاميرات.

يمكن اختصار ذلك بكلمة "الحرية"، وصلت الشعوب إلى العنوان الذي طالما حلمت أن تجده، وكنتيجة لم يعد أمام الأنظمة إلا خيارين، إما أن تغير نفسها شكلًا ومضمونًا تماشيًا مع هذا العالم الجديد أو أن تخرّب كل شيء في طريق تلك الحرية للمحافظة على نفسها بشكلها القديم، فاختارت الخيار الثاني الذي لا يؤمّن لها البقاء الفعلي، بقدر ما يجعل البلاد تدفع أغلى الأثمان، وما هو إلا خيار انتقامي صرف يمتد أثره ليطال المستقبل، ليؤثر سلباً على الأطفال الذين لم يولد آباؤهم بعد.

فالتعاطي الشعبي مع مواقع التواصل الاجتماعي في عام 2010 و2011 مثلاً ليس كما هو اليوم في عام 2017 ولن يكون كما هو في عام 2040، وللأسف فإن الوضع السياسي وبالتالي الديني كانا الأقدر على صبغه بطابعهما وفق ترددات الصراع الحالي، فلم يعد مستغربًا اليوم أن تشهد حرباً ضروسًا بين السنّة والشيعة في تعليقات على فيديو للاعب كرة قدم عالمي في اليوتيوب، لم يعد مستغربًا أبدًا أن تقرأ منشورات على الفيس بوك تبارك وتهلل لانتحاري قتل عشرات المدنيين، أو مجموعة ذبحت نساء وأطفالًا، لم تعد جديدة الشراسة في تحقير المختلف، المختلف في كل شيء أو أي شيء، قضية فلسطين، الجولان، الثورة السورية، مفهوم السيادة، مفهوم الدولة ومؤسساتها، المعارض، المؤيد، الإسلامي، الملحد، العلماني، النادي، المطرب، الفيلم المفضل، لم يبق هناك أي تفصيل إلا وبات ملعباً للشراسة التي تصل لإباحة وتبرير القتل، في عام 2011 لم يكن الأمر بهذا الشكل، على العكس تماماً كانت الأجواء توحي بالإيجابية على المستوى الشعبي.. إلا أن الفشل السياسي يستدعي الفشل الديني والاقتصادي، وبالتالي لا مفر من توريط المجتمع في إنتاج هذه العصبية المنفّرة وهذا التشدد الهدّام، بات علينا أن نعتاد على كل هذا، أن نتأقلم مع سوء هذا الوضع الجديد والعمل على تغييره بكل ما نملك، فلا ندمّر أي حديقة يمكن أن نكتشفها مستقبلاً لأولادنا، كما فعل نظام الأسد بنا.

المساهمون