عزمي بشارة.. في نفي الاستبداد

عزمي بشارة.. في نفي الاستبداد

15 يونيو 2017
(في زيارة إلى مخيم صبرا وشاتيلا)
+ الخط -


ما الذي يجعل اليوم شخصًا مثل المفكر العربي عزمي بشارة عرضة لحملات مسعورة من التشويه والاستهداف والعداء الشخصي الصارخ؟ هو الذي اعتزل العمل السياسي المباشر وغير المباشر منذ سنوات، حاملًا على عاتقه مهام البحث والتفكير والتنظير لواقعنا العربي. حملات تقودها جهات مشبوهة بتورطها مع العدو الصهيوني في مؤامرات لخنق أي أمل في التغيير الديمقراطي والحرية في بلداننا العربية، وللحقيقة هي حملات لا تفتأ تزداد سعارًا وشراسة، كلما أطلت برأسها إحدى أزمات المنطقة المفتعلة بواسطة ذات القوى الرجعية الموالية للاستبداد والمعادية للحرية.

ربما كان من السهل على كل من أراد، أن يزج بشخصية سياسية أو رجل دولة في الصراع الإقليمي الحاصل الآن، أن يفعل ذلك وفقًا لادّعاءات حقيقية أو مفتراة، ليس ثمة فرق، ففي الأخير كلاهما؛ السياسي ورجل الدولة، لا بد له من موقف مما يجري في المنطقة، سواء كان سلبًا أم إيجابًا. من هنا، تأتي سهولة الزج بهؤلاء في مثل هذه المواقف، وكذلك يأتي الرد عليهم بذات الأساليب والوسائل التي تعتمدها المعارك السياسية؛ حملات إعلامية ضخمة تُجند لها الأقلام ووسائل الإعلام وترصد لها الأموال الطائلة.

ففي مثل هذه الحالة، تبدو الحملات الإعلامية ضد هؤلاء أمرًا مفهومًا في سياقه، لكن حينما تتخطاهم لتطاول أشخاصًا آخرين كرسوا حياتهم وجهدهم للعمل الفكري الدؤوب الذي يسنده ويقف دليلًا عليه إنتاجهم الفكري والبحثي الوافر الذي لا تخطئه العين، مثلما هي الحال الآن مع عزمي بشارة، فلا بد لنا من الوقوف مليًا والتساؤل حول دوافع وأغراض هذه الحملات المشبوهة، وإماطة اللثام عنها، لا لكشف من يقف خلفها ويمولها؛ فذلك أصبح من نافل القول، لكن وبشكل أكيد لمعرفة ما الذي تستهدفه هذه الحملات بالضبط من وراء التشويه المتعمّد لصورة عزمي بشارة، الذي لا يمل من التأكيد كل حين أنه لا يحمل سوى قلمه وعقله وصحائف سطّرها بجهد فكري حُر ورصين وملتزم بقضايا أمته، وهي تساؤلات تعتبر الإجابة عنها واجبًا علينا نحن الشباب من جيل الربيع العربي الذي رفض الخنوع وثار على طغيان الأنظمة العربية الاستبدادية، ولم يجد ملاذًا من رمضاء الثورات المضادة التي أعقبت ربيعه الموؤود، سوى ما جاد به بشارة من فكر حر وديمقراطي تتشرّبه الأجيال الجديدة وهو ما يثير ذعر الأنظمة الاستبدادية العربية وحليفها الكيان الصهيوني ومن ورائهم حلفاؤهم.

منذ العقد الأخير من القرن الماضي، ومؤلفات عزمي بشارة تشتبك بشكل ملتزم وعميق مع قضايا الواقع العربي، تفكّك أزماته وتشخّص انتكاساته وتقترح حلولًا لمعضلاته الشائكة، من خلال مؤلفات أقل ما يقال عنها إنها تأسيسية وغير مسبوقة في مجالها.

فحينما كتب "طروحات عن النهضة المعاقة" في عام 2003 مرورًا بكتابه "من يهودية الدولة وحتى شارون" وكتابه "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" كان واضحًا تمامًا أن الرجل قد اختارًا مسارًا مغايرًا عما التزم به معظم المفكرين والمثقفين العرب في التعاطي مع مشكلات أمتهم؛ مسارًا يربط بإحكام بين قضية العرب الأولى؛ فلسطين، وبين همومهم في النهضة والحرية استنادًا لفكر قومي يعيد تعريف معنى القومية العربية نازعًا عنها أوهام الأيديولوجيا وظلال الشمولية، فاتحًا آفاقها نحو الديمقراطية والحرية التي تتعطش لها المجتمعات العربية.

لم تتوقف استجابات بشارة لقضايا الأمة العربية الملحّة والمصيرية عند هذا الحد، فمع كتابيه "أن تكون عربيًا في أيامنا" و"المجتمع المدني: دراسة نقدية"، بدا بشكل لا مجال معه للشك، أن بإمكان المثقف العربي الملتزم بقضايا أمته، ليس فقط أن يعيد تشكيل وعي أمته بمنأى عن الأساطير المتناسلة عن العقل الاستشراقي والمعاد إنتاجها مرارًا لصالح المنظومات الاستبدادية العربية وتوابعها، وبعيدًا عن أوهام الأكاديميا الغربية، ولكن كذلك بمقدوره أن يضيف إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية عبر إنتاج معرفي علمي عربي، تفسيرات معمقة وغنية في تشخيص حالة الاستثناء الديمقراطي عربيًا، الإضافات التي ما تزال تتوالى عبر مؤلفات عزمي بشارة التي فاقت عشرين مؤلفًا.

تتخطّى الأهمية الفكرية لإسهامات عزمي بشارة هذا الحد بكثير، فانطلاقًا من حقيقة مفادها أنه لفهم التجربة العربية ومخاضاتها وانفتاحها على احتمالات متعددة، لا بد من قراءة دقيقة وشاملة لمسارات وتطورات تجارب الأمم الأخرى، يعيد من خلالها المنشغل في همّ النهضة العربية، فهم واقعه بأسلوب مقارن يعي أهمية التاريخ كمختبر تجريبي، ويراعي الخصوصية الثقافية للتجربة العربية، بذل الرجل جهدًا استثنائيًا في تتبع تطورات ظواهر اجتماعية وثقافية وسياسية نشأت في أوروبا؛ كالمجتمع المدني والعلمانية، وظلت لعقود من الزمان طلاسم بالنسبة للمفكرين والأكاديميين العرب، حتى أن من بينها قضايا اجتماعية عربية كالطائفية، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح منذ كتابه "المجتمع المدني" مرورًا بكتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" بجزأيه الأول والثاني وكتابه "هل في مصر مسألة قبطية؟"، ولئن سمت مساهمات الرجل ووصلت إلى مستوى رفيع من التنظير في حقل العلوم الاجتماعية، إلا أن ذلك لم يكن عائقًا له مطلقًا عن التقاط زمام المبادرة لمعالجة قضايا الواقع اليومي للأمة العربية، وأعني بذلك فهم وتفسير ومعالجة مطالب الجموع العربية المتعطشة للحرية والديمقراطية والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، التي انطلقت مع ثورات الربيع العربي.

هكذا، كتب بشارة ما يُمكن تسميته "سِفر الثورات العربية" من خلال مؤلفاته "الثورة التونسية المجيدة" و"في الثورة والقابلية للثورة" و"ثورة مصر" بجزأيه و"سورية درب الآلام نحو الحرية"، مبينًا من خلال هذه المؤلفات أنه لا تناقض البتة بين الإنتاج المعرفي الرصين وبين أن تكون مادة هذا الإنتاج وموضوعه، بل ولُحمته، هي قضايا الواقع اليومي وانشغالات وهموم الناس، على عكس ترفعات الفكر ومؤسساته وهوس المشتغلين به. هذه المؤلفات الأخيرة التي تنصهر مع قضايا الواقع العربي المعاش وهمومه، هي إجابة واضحة وجلية على أن التزام المثقفين العرب بقضايا أمتهم ليس بأي حال الانطواء على الذات في أبراج عاجية ومناجاتها بمنأى عن هموم المجتمع الذي تعيش فيه، لأن مفهوم الالتزام الذي يطرحه بشارة ويلزم نفسه به يتعارض جذريًا مع حالة عاجية ونرجسية الصورة النمطية للمثقف العربي.

برغم كل ما يمثله هذا الإنتاج الفكري لعزمي بشارة، على أصالته وجدّته من تحصين ومنعة لصاحبه وتعزيز لمكانته كمفكر وباحث، ضد تخرصات الأقلام المأجورة وسُعار الحملات التشهيرية مدفوعة الثمن، كون أصحابها ومن خلفهم ممولوها والساهرون على أمرها، هم جميعهم من زمرة الذين لا حول لهم ولا قوة عند مقارعة الرجل وسجاله، لأنهم غير مؤهلين لذلك لا عمليًا ولا أخلاقيًا، فأياديهم الملطخة بدماء الشعوب العربية، وحقيقة أنهم لا يحسنون سوى حمل البندقية ورمي البراميل المتفجرة على المدن والقرى العربية التي تؤوي النساء والأطفال والشيوخ، كلها أسباب وجيهة تسقط عنهم أي تأهيل أخلاقي لازم بالضرورة لكل من يريد الخوض في الشأن العربي أو تجريم أحد أطرافه، إلا إذا كنا نُقِر بحقٍ للمجرم في أن يصبح قاضيًا ليحكم على الناجين من ضحاياه.

وما هذه الحملات الآن ضد عزمي بشارة، من القوى الشمولية ورعاة الاستبداد العربي الداخلين جملة في الحلف الصهيوني والممولين لمؤامراته ضد شعوبهم العربية بسخاء محير، إلا دليل آخر على أن الرجل لم يقف بإسهاماته الفكرية عند الحد الذي اجتلب عليه العداء السافر الماثل الآن، فهو لا يني يُمأسس بصبر وتؤدة جهوده ويبلورها إلى مشروع نهضوي مستدام، لن تنجح معه ترهات الخطاب التشويهي الشعبوي وضلالته الفجة، مأسسة بدأت من خلال إنشائه وإدارته المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في كل من الدوحة وبيروت وتونس وواشنطن، والذي أصدر حتى الآن ما يربو عن مئتي كتاب تأليفًا وترجمة، وأربع دوريات محكمة وفقًا لمعايير علمية صارمة، هي الأولى في مجالها عربيًا، وفصلية تستشرف قضايا الأمة العربية وهمومها، وبالطبع ليس أخيرًا مشروع معهد الدوحة للدراسات العليا الذي دفع في يوم 12 من يونيو/ حزيران الحالي، إلى المجتمعات العربية بباكورة إنتاجه من حملة الماجستير في العلوم الاجتماعية والإنسانية والإدارة العامة. يومها قال عزمي بشارة ضمن خطابه الاحتفائي بتخريج المعهد لعدد 101 باحث: "يحدونا أمل أن ينشأ في بيئتنا مثقفٌ غيرُ محايدٍ بين الخير والشر، والحق والباطل، والحرية والعبودية، والعدل والظلم، وتعنيه قضايا شعبه ومجتمعه".

المساهمون