سورية... نحو عقد اجتماعي جديد (4-4)

سورية... نحو عقد اجتماعي جديد (4-4)

24 مايو 2017
الفطنة تقتضي إدراك حجم الأخطار والاستعداد لمواجهتها (Getty)
+ الخط -
إذا كانت الطائفية والمناطقية أعقد مشكلتين تواجهان المجتمع السوري ومستقبله السياسي، فإن مشكلة الفردية وعدم القدرة على العمل ضمن فريق لا تقل، في رأيي، خطراً أو تعقيداً عن هاتين المشكلتين، وتملك تأثيراً تخريبياً واسع النطاق قادراً على الإضرار بأي صيغة لعقد اجتماعي يحظى بقبول السوريين.

لقد دعا جان جاك روسو قبل نحو قرنين من الزمن إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس سليمة، تعود فيه السلطة إلى الشعب حقاً لا شكلاً، وناقش الموضوع من زاوية عدم شرعية وضع أي حاكم اعتلى سدة الحكم بعيداً عن إرادة الشعب بدعوى حق خاص أياً كان جوهره، معتبراً أن شرعية الحكم لا تستمد إلا من حرية الشعب باختيار حكامه على أساس عقد يتساوى طرفاه، لا إذعان فيه ولا إطلاق في صلاحيات الحاكم. لكننا في سورية اليوم تجاوزنا تحدي إقناع الناس بهذه الأسس، لنقل في الأدبيات الرسمية على الأقل، لكننا نواجه معضلة كيفية الحفاظ على أي عقد اجتماعي نتعاقد حوله، وهنا تبرز ضرورة آنية، لا يمكن لأي عقد اجتماعي أن يبرم وينجح ويستمر بدونها، وهي أن يؤمن الشعب بأهمية تنظيم نفسه وممارسة العمل الجماعي مع توطين النفس على تبعات ذلك.


في أي عقد من العقود يتنازل المرء عن جزء من حقه أو يقيد حقه المطلق في قضية ما مقابل الحصول على جزء من حق الآخر أو الآخرين، أو تقييد حقوقهم في تلك القضية، وهذه قاعدة عامة لا تكاد تتخلف في أي من فروعها المفترضة، وعليه فإن العقد الاجتماعي، الذي تنتج عنه صيغة معينة للحكم، ليس استثناء، ومن قبل فكرة التعاقد العام وشكل الحكم الناتج عنه وآلياته قد لا يشعر بالرضا الكامل عن الأشخاص الذين يصلون من خلال هذه الآليات إلى الحكم، أو لا يتفق معهم في بعض الأمور، وقد تجمعه بهم بعض الأطر بما يمكن أن يؤدي إلى مشاجرات ومشاحنات.

هذه المشاحنات الشخصية تعد أمراً مفهوماً ومألوفاً في إطار العمل الجماعي حتى في أضيق أشكاله، ولطالما أعاقت الخلافات الشخصية النشاطات العامة والخاصة، لكنه من النادر أن تتفاقم وتطغى على كامل المشهد، كما يحصل فيما بين السوريين، الذين يميلون إلى تحويل مثل هذه الخلافات، حتى في أتفه صورها أحياناً، إلى صراع جوهري يعيد بناء منظومة علاقات كل فرد منهم، على أنقاض المنظومة السابقة، وإذا ما حظينا بمجموعة أفراد ذوي حضور وتاثير في المستويات العليا لبعض مؤسسات الدولة من هذا النموذج لنا أن نتخيل حجم التدمير والخراب الذي سيلحق هذه المؤسسات والمصالح العامة التي تتصدى لتحقيقها.


قد يستغرب القارئ غير السوري من جعل مشكلة الفردية ضمن المشاكل المعيقة لقيام عقد اجتماعي سليم ومستقر، لكن السوريين يدركون جيداً الأثر المأساوي لهذه المشكلة، إذ لا يغيب عن الأذهان تلك الفترة الذهبية التي نعمت بها سورية بديمقراطية فاعلة في خمسينيات القرن الماضي، فترة خرجت منها سورية تحت سمع وبصر النخب، إلى نفق الانقلابات العسكرية، لينتهي في مستنقع الاستبداد المطلق ذي الصبغة الطائفية والعائلية.

بالنظر إلى ذلك، ينبغي على كل من يتصدى للشأن العام في سورية ويخوض في بلورة عقد اجتماعي جديد أو يكون طرفاً فيه، وكل من يسهم في إنتاج نظام الحكم المنبثق عنه أن يضع في حسبانه كل ذلك، دون أن يستهين بشيء منه.


ليس من المبالغة القول إنه إذا ما تمكّنا كسوريين من حل مشكلة الفردية وعدم الانصياع لمقتضيات العمل الجماعي، فإن مشاكل الطائفية والمناطقية، بل وحتى العلوية السياسية وما جرته على البلاد من دمار ودماء ومشاعر الانتقام والعزلة الاجتماعية لن تشكل عقبة كأداء أمام إعادة بناء العقد الاجتماعي الجديد، فإن العدل إذا كان المبدأ الأساسي لهذا العقد، والعدالة وصون الحقوق وعده الأسمى لكل أبناء الشعب، سواء من المتضررين والضحايا، وكذلك المجرمين والخونة أو المحايدين، فإن أحداً لن يتمكن من إفساده أو إسقاطه بعد أن يثبت فعاليته.

على أن المنغصات لن تتوقف يوماً، والتحديات ستستمر في اعتراض الطريق، والمؤامرات ستجد طريقها إلى إلحاق الضرر بعقدنا الاجتماعي المنشود، والفطنة تقتضي إدراك حجم الأخطار والاستعداد لمواجهتها بأفضل الوسائل، والتطلع نحو المستقبل بعين الأمل والحرص على الإنجاز وتوريث الوعي بأهمية كل ذلك للأجيال اللاحقة قبل أن يرثوا القوالب الجاهزة فلا يحسنوا استثمارها أو صيانتها فيتيهوا في بحر الطغيان وصراع الأقوياء.

المساهمون