أقفاص الموت.. الكاحل الذي أوقف كتائب "داعش"

أقفاص الموت.. الكاحل الذي أوقف كتائب "داعش"

15 مارس 2017
(أسرى "داعش"/ فيسبوك)
+ الخط -


منذ أن سيطر "داعش" على مدينتي الرقّة، وأنا أمتلك رغبة في تتبّع أخبار المقاومين فيها والمهجّرين منها، أبحث عن أدقّ تفاصيل الحياة والموت. ولا أنسى أبدًا، أن أكثر المقاومين هناك في بلادي من النساء ممن لا سند لهن ولا معين.

فمن قُتل زوجها في قصف لطيران النظام وحلفائه الروس أو "التحالف الدولي"، بقيت تصارع الحياة في ظل ظروف معيشية صعبة للغاية، محاولة الحفاظ على أطفالها من فكر "داعش" المتطرّف. هنا، تتحدّث إحدى الفارّات من بطش "داعش" في الرقّة إلى تركيا، عن قصّة إحدى المعذّبات على يد التنظيم.. سميتها ريم.

ريم وحيدة والديها، لا يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين بعد، لم تكمل دراستها ولم تتمكّن من تحقيق حلمها وحلم والدها "دكتورة في الأدب العربي"، فخوف أهلها عليها من سوء الأوضاع منعها ذلك.

فمنذ أن سيطر التنظيم على المدينة، منع التعليم إلا "في مدارسه التي تحمل الفكر المتطرّف" وأغلق المدارس والمعاهد الخاصّة وأجبر المعلّمين على دورات شرعية "استتابة"؛ ومنعهم من إعطاء دروس خاصّة، ومن يخالف هذا القرار يُجلد "ثمانين جلدة" ويعاقب بغرامة مالية تصل إلى ثلاثة آلاف دولار.

لم تكترث ريم لقرارات التنظيم، وواصلت تدريس أبناء مدينتها بسريّة تامة، كانت تتنقّل بين منازل طلابها مثل اللصوص، حاول والدها منعها من التدريس إلا أن إصرارها جعلها تنجح في إقناعه بالأمر.

حين خرجت ذات صباح مسرعة لتدريس طلّابها، لم تودّع والديها ولم تلتفت وراءها، ألقت السلام عليهم ومضت إلى العمل، لم تبتعد كثيرًا عن منزلها حتى أكمل الطيران غارته الثالثة على الحي الذي تسكنه، اختبأت داخل محلٍّ تجاري اجتمع فيه بعض الهاربين من القصف، لتعود على عجل إلى منزلها وتجده قد تحوّل إلى ركام.

نادت على أمّها وأبيها حتى ميّزت أنين والدتها التي كانت تحاول الوصول إلى زوجها الممدّد على سجادة الصلاة، نُقل الأب والأم وريم للمشفى بعد أن فقدت وعيها. توفي الأب وأصيبت الأم بالشلل بعد أن اخترقت شظيّة عمودها الفقري.

انتقلت ريم ووالدتها لبيت قد استأجرته لتكمل حياتها والتدريس والمقاومة. مرّة أخرى تخرج ريم للتسوّق في أحد أهم شوارع المدينة "شارع تل أبيض" وأكثرها ازدحامًا وانتشارًا لمسلّحي التنظيم.

هبّت الريح رافعة طرف عباءتها عن كاحلها، فانهالت الأعين وأصوات عناصر التنظيم عليها من كل حدب وصوب، لم تكن تعلم أن طريق الأندلس مغلق بكاحل قدمها؛ وأنها تعيق جحافل التنظيم للفتوحات، استنفرت الدوريات لاعتقالها، غلطتها الوحيدة أنها لم تعقد اتفاقًا مسبقًا مع الريح.

لم تسكت أمام ادعائهم "مخالفة لشرع الله"؛ بل ردّت للدفاع عن نفسها أن تغلق فمها خنساوات الحسبة "كتيبة الخنساء"، التي يقع على عاتقها ملاحقة النساء المتبرّجات وغير الملتزمات بالزيّ الشرعي، والتنصّت على أحاديث الناس، ومنع اختلاط النساء بالرجال في المحلّات، اقتادت كتيبة "الخنساء" ريم إلى مقرّات الحسبة إلى حين إحضار وليّ أمرها لينال عقوبته الشرعية.

لا وليّ لأمرها سوى والدتها المقعدة، ولا حلّ سوى تتبّع خطاها بعد غيابها لليوم الثاني، كانت تعلم أن لا صُلح هناك أو تفاوض، فالموت آخر النهايات، ولا عذاب أشدّ من فراق والدتها ليومين كاملين، أصدر القاضي حكمًا "رحيمًا" بوضعها في قفص من حديد لكن دون جماجم أو علّق وسط مقبرة "كما حدث في مرّات سابقة، رُبط القفص بسلاسل معدنية بعمود إنارة فوق جسر الرشيد الجديد، بعد إحكام إغلاقه جيّدًا خوفًا من هربها.

أخرجوها لتعود لوالدتها وقد أنهكها التعب وجف فمها من كثرة الصراخ حيث لا يسمعها أحد. لم تكن ريم الضحيّة الأولى أو الأخيرة، فقد سبقتها هناء التي كان حظها وسط مقبرة تل البيعة شمال الرقة، وسط كومة من الجمام وأخريات كان حظهنّ أكثر سوءًا.

المساهمون