منع "إن شاء الله استفدت".. استخدامات سيّئة الصّيت للمقصّ

منع "إن شاء الله استفدت".. استخدامات سيّئة الصّيت للمقصّ

01 مارس 2017
(لقطة من الفيلم)
+ الخط -

في طفولتي، كنتُ أرسم في مخيّلتي أنّ أحدهُم، وقد اشتعلَ رأسهُ شيبًا، يجلسُ أمامَ شاشات عملاقة، يدخّن الغليون ويراقبنا. لا أتذكّر ملامحه، ربّما تعمّدتُ أن أتجاهل هذه التّفصيلة في لوحة الرّقابة تلك؛ لأنني كنتُ أعلمُ أنني سآراهُ عندما أكبرُ في عدّة أوجه.

من حينٍ لآخر، يذكّرني الحديث، مجرّد الحديث، عمّا يجوز لنا مشاهدتهُ وما هو محظورٌ علينا، بأنّ صاحبَ الشاشاتِ هذا لا زال يطارُدنا بعيونه، وأنّهُ لا يكبرُ ولا يتقاعد أبدًا؛ فقبلَ أن أحظى بفرصة مشاهدة الفيلم الأردني "إن شاء الله استفدت"، صادفتُ بيانًا من مخرجِ الفيلم، محمود مسّاد، يشيرُ إلى منعِ هيئةِ الإعلام عرضَ عملهِ في صالات السّينما بذريعة الإساءة لهيبةِ الدّولة، ثمّ تصريحٌ آخر مُضاد، على لسانِ رئيسها محمد قطيشات، أكّد أنّ الفيلم لم يُعرض على الهيئة أصلًا حتى يُصار إلى منعه. لماذا لا زلنا نناقش بديهيّات تجاوزها العالمُ منذ عقود؟ وأين الفيلم؟

على كلّ حال، وسواء صحَّ بيانُ مسّاد أم ثمّة سوءُ تفاهم؛ فهذه ليست المرّة الأولى التي يُثار فيها موضوع الرّقابة على المُنتج الأدبي والفنّي والسينمائي، والمتلقّي عندنا اعتاد تدريجيًا على متابعةِ ما تسمحُ لهُ المؤسّسة الرسميّة فقط، بعد أن يأتي مقصّها الرقابيّ على أكثر من ربعِ محتوى المادّة المعروضة، لدرجةِ أنّ احتماليّة عدم فهمكِ لما تتابعهُ تبقى قائمةً دائمًا.

هذه العيون السّاهرة على تفصيلِ ما يلزمنا من المادّة الفيلميّة، جادت منذُ دخول التلفاز لبيوتنا وحتّى تاريخ نشر المقال بكل ما يمكن فعلهُ لإبقائنا خارجَ المثّلثِ المحظور "السياسة، الجنس، الدّين"؛ حتّى أصبحَ هذا التّقليدُ مُصاحبًا لنا في كل مجالاتِ حياتنا خارج إطار الشّاشة، هنا على أرضِ الواقع.

وليس من دليلٍ أصدق على هذه الفرضيّة، من طريقة تعاملِ المجتمع حتّى اليوم مع ذاتِ القضايا الثلاث، والتي إن شئنا أن نتحاشى الاصطدام بها وأشكلتها وطرحِها ضمنَ سياقٍ فنّيّ أو أدبيّ أو علميّ، فلا يسُعنا إلا أن نواصلَ الحديث عن فوائدِ الميرميّة على منصّات التواصلِ الاجتماعيّ، وأن نجعلها محور كلماتِ أعمالنا الموسيقيّة، والشخصيّة الرئيسيّة في المواد الفيلميّة.

ليسَ من الغريب أبدًا، أنّ شاشة التلفزيون الأردني، بل معظم شاشات العرب، لم ولن تبثّ على فضائيّاتها الزّاخرة بالأعمالِ السّطحيّة، أفلامًا كالتي أخرجها الرّاحل ستانلي كوبريك (1928-1999) مثل "Clockwork Orange" وفيلمه الأخير "Eyes Wide Shut" على ما تحملهُ من عمق وأهميّة في تفكيك خفايا الجنس والرّغبة والعُنف في النّفس البشريّة؛ إذ إنّ برمجتها لتناسبنا، بحسب مقايسيهم، يعني أنّها ستتحوّل إلى عمل سُوريالي مدّته خمس دقائق لا أكثر، لن يفهمهُ أحدٌ ولن يكفي لبثّ فاصلٍ إعلاني.

هذه الوظيفة استغنى العالمُ عنها منذ سنوات طويلة، استبدلها بأحرفٍ وأرقامٍ بسيطة وُضعت على غلافِ الفيلم؛ هذا للعائلة، وهذا للبالغين، وهذا يحوي مشاهدَ قاسية، ولكَ أن تختار ما يناسبُ ذائقتك وسنّكَ واهتماماتك، لكنّ مؤسّساتنا الرسميّة لا زالت تعتبرُ هذه الوظيفة عملًا أساسيًا، وربّما مُسلٍّ أيضًا.

إن صحّ ما جاء على لسانِ مسّاد، فنحنُ أمامَ خيار أن نشاهد فيلمًا بلا بمعنى وقد حُذفَت ثلثُ مشاهده، أو أن نسمعَ عنهُ كذكرى ممّن أتيحت لهُ فرصة مشاهداتهِ، وعلى رأسهم الأميرة ريم العلي، عضو مجلس مفوّضي الهيئة الملكيّة للأفلام، التي سبقَ أن حصدَ ذاتُ الفيلم منحتَها، مثلما حصدَ جوائزَ أفضلِ فيلم آسيوي، وأفضل ممثلٍ في مهرجانِ وارسو الدّولي.

هي فكرةٌ لا تبدو سيّئة عندَ صُنّاع القرار، وإلّا لما فكّروا فيها من الأساس، ومن خلفها  تلوحُ أسئلةٌ مثل: أيّ مثقّفٍ هذا الذي يقترحُ عرضَ فيلمٍ مبتور؟ وكيفَ لمثلِ هؤلاء، بهذا المستوى المعرفي والذائقة الفنيّة الضّحلة، أن يشكّلوا الوعيَ الفردي عند المتلقّي؟ وأخيرًا، هل بهذه المنهجيّة برمجَ ذو الشاشاتِ العملاقة عقولنا لنُفضّلَ أفلامَ الحركةِ والقتالِ على تلكَ الصّعبةِ المتوحّشة التي تعرّينا أمام أنفسنا؟

المساهمون