صناعة الضحية.. تقنيات قمع الحرية (5 - 5)

صناعة الضحية.. تقنيات قمع الحرية (5 - 5)

08 فبراير 2017
(أمام البرلمان البريطاني في لندن)
+ الخط -

الحديث عن حالة الوقوف بوجه الضحية المقصود به الوقوف ضد تقنيات ترسيخ صورة الضحية، وتحويلها إلى "هويّة" ثقافية واجتماعيّة قائمة على أساس الدونيّة في سبيل خلق الذنب الجمعي؛ ومن جانب آخر، الوقوف بوجه التقديس الذي يمارس عليها، والذي يعتبر الأخطر، ليجعلها منيعة على النقد، بوصفها "ضحيّة" تمتلك قيمة جوهرية يمكن أن تنسحب على كافة جوانب الحياة، فالمناعة ضد النقد تساهم في شلل الضحية نفسها، وتوقفها عن الإنتاج بوصفها تنتظر الآخر دوماً للفعل؛ فمركزية الضحية هذه هي صيغة مؤسساتية لا ثقافية فقط، أنظمة الوسم المرتبطة بالتبادل وبالأوراق الرسميّة أيضًا هي جزء من هذا التقديس الذي يمنعها من التغيير أو التعرض للانتقاد، ويكسب ما تقوم به وما تنتجه مناعة مقدّسة أشبه بالشخوص الدينيّة.

الجانب الآخر المرتبط بالضحية وتقديسها يتمثل بسؤال حرية التعبير، إلى حدّ يحق لنا انتهاك قدسية الضحيّة، تحت مسمى "الإنسانيّة" أو عدم مس المشاعر. حقيقة حرية التعبير والسخرية والتهكم والانتقاد يجب أن تكون مضمونة دومًا، فلا شيء مقدس مهما كان، خصوصًا أنه من الممكن استخدام "الضحيّة المقدسة" كتقنية لقمع حرية التعبير،  ليتحول الأمر إلى ما يشبه بالقمع الديني أو السياسي، بل ويمكن استخدماها كوسيلة لخلق الذنب الجماعي، وهذا ما نراه في الحالة السوريّة، هذا الذنب ينتج من شلل الجماهير وعجزها عن تغيير السياسات الحكوميّة، ليأتي وسم الضحيّة و"ملاطفتها" وسيلة لغسيل هذا الذنب، لنقف على حدود دقيقة وفاصلة بين خلق الوعي وبين تبييض الضمير كي يتمكن البعض من النوم ليلًا، فاستعراض صور الضحايا قد يصلّ إلى ما يشابه الصيغة الإباحيّة، عبر عرض العيوب لأقصاها، فهو من جهة انتهاك للضحيّة في صميم وجودها الإنساني، وتضخيمها "إباحيًا" لتفقد مرجعيتها وتتحول إلى صيغة استعراضية تبادليّة تفعّل العواطف لا العقل.

تقنيات تفكيك صورة الضحية هذه والمرتبطة بالصناعة الثقافية عديدة، أهمها مثلًا البارودي، أو المحاكاة الساخرة، بوصفها تقنية تنتقد البنية من جهة وتحاكم صورتها، هي لا تنفي المضمون، بل تسائل الشكل، وسيلة العرض والنشر، فالبارودي تشابه ضمن بنيتها مفاهيم اللعب، بوصفه ينتمي لما قبل نظام التصنيف، فهي تتبنى الشكل وتعيد إنتاجه في سبيل مساءلته، هي لا تنفيه، ولا تقدم بديلًا، هي تساؤلات توظف السخريّة لتنتهك المقدّس، وتحاكم الضحية لتدعوها للانفكاك من هذه الوضعية والتفكر بآليات النمذجة التي تخضع لها.

النوع الآخر من البارودي مرتبط بالمأساة ذاتها، لا عبر السخرية، بل بافتراض أشكال جديدة لأماكن تدّعي أنها لا مأساوية وذلك نراه في الصور التي تنتشر لعواصم العالم وكأنّها حلب أو دمشق، هذه التقنيات تساهم بخلق الجدل السياسي، بهدم الهوة بين "الأنا" و الـ"هو" الضحية، هي انفتاح للاحتمالات بوصف المأساة لا ترتبط بجغرافية أو لون أو لغة، هي احتمالات قائمة  دومًا، إلى جانب أنها تسخر من "نمط الحياة" الذي يُطالب اللاجئون للاندماج فيه، فهو مجرد صورة مثاليّة متعاليّة، تُفرض على الغرباء والايكسونتريك كي ينصاعوا لها بوصفها تمثل "الحياة" و"رغد العيش" الذي تؤمنه سياسات البلدان البديلة لسكّانها "العاديين"، وهذا ما ينافي الواقع والحلم اليوتوبي الذي يؤمن به اللاجئون-الضحايا نتيجة وسائل الإعلام والصناعة الثقافية التي يتبادلون منتجاتها.

كذلك تعتبر السخريّة والساتير عبر الكاريكاتور والتعليقات المختلفة أيضًا وسيلة لتفكيك صورة الضحيّة، وانتهاك قدسيتها، بوصفها، أي السخريّة، أيضًا تمس الصورة الجاهزة المصدّرة، فتضخيم المأساة حد الكوميديا يدعو للتفكير، بوصف الكوميديا وسيلة للانتقاد السياسي عبر إبراز العيوب والتناقضات، لا ترسيخها وتحويلها لأداة للترهيب العاطفيّ، السخرية في جوهرها نقديّة، ودعوة للتفكير ومحاكمة نقاط الاختلاف والتشابه، والسخرية من وضعية الضحيّة هي دعوة لمساءلتها ومحاكمة الأنظمة التي تسببت بحالها، بصورة أدق، نزع القدسية عنها وإحكام العقل بعيدًا عن الصيغة الأيقونيّة العصيّة على النقد.

إن تراكم عمليات انتقاد الضحيّة وتفكيكها، يساهم بخلق رؤية وذاكرة مستقبلية تتجاوز ذاكرة العنف الذي سيتم تناقلها مستقبلًا، والتي ستتحول إلى صيغة رسميّة، إذ تفتح الخيارات لاحقًا أمام تكوين صيغة تاريخية لا مؤسساتية، فهي تدعو للتفكير، وعدم التسليم بالصيغ والصور التي تنتمي لعالم الشاشات، فتقنيات الانتهاك والتفكيك لا تدعو لبديل، هي نوع من الرفض، من عد الانصياع والتسليم.

المساهمون