رواية 1984.. دونالد ترامب "الأخ الكبير"

رواية 1984.. دونالد ترامب "الأخ الكبير"

06 فبراير 2017
(رواية لـ رواية جورج أورويل، تصوير: جاستين سوليفان)
+ الخط -

نستطيع القول إن رواية "1984"، ظلّت منذ صدورها ضيفةً كثيرة التردّد على رفوف المكتبات، وخطب السياسيين والمثقفين، ووسائل الإعلام. فالرواية الصادرة عام 1949 كانت تُدفع إلى الواجهة مرارًا وتكرارًا لغاياتٍ عدّة، أبرزها كانت المقارنة؛ تلك القراءة للحدث الآني، المدفوعة أحيانًا بغايةٍ مسبقة، لخلق أواصر التطابق بين الراهن هذا وإحدى تفاصيل "الديستوبيا" الأورويلية، كما حدث عام 2013 حين شُبِه ( Xbox One) بجهاز (التيليسكرين Telescreen)، الذي يعرفه جيدًا قرّاء الرواية، قبل أن تنهي "مايكروسوفت" تلك الجلبة بإعلانها أن منتجها –المزود بميكروفون وكاميرا يعملان دومًا- لن ينتهك الخصوصية وبأن الغاية كانت خلق أقوى تواصلٍ ممكن بين المستخدم والجهاز، ويحقّق الجهاز نسب المبيعات المتوقعةً له بعد تغيير الشركة آلية عمل الجهاز.

تعود الرواية اليوم إلى الواجهة، تنفد نسخها من "أمازون" وتعلن دار "بينغوين" نيتها طباعة 75 ألف نسخةٍ جديدة، ويجري الحديث عن إنتاجها في "برودواي" قريبًا. الاستنفار هذه المرّة ابتدأ بعد تسلّم دونالد ترامب السلطة، ومع تصريحات مستشارته "كيلي كونواي" عن "الحقائق البديلة"، عندما كانت تدافع عن وجهة نظر الإدارة الجديدة بأعداد المشاركين بحفل تنصيبه والمقارنات التي نشأت بعد هذا الحفل.

الحقائق البديلة إذن، يبدو المصطلح مغريًا لبدء مقارنةٍ بين ترامب و"الأخ الكبير"، وبين الولايات المتحدة الأميركية وأوقيانيا "Oceania".

ولمّا كانت المقارنة صالحةً عند نقاطٍ معينة، فهي باطلةٌ عند أخرى، في الصميم. ولنبدأ بـ "أمازون" نفسه، بوصفه سوقًا إلكترونيًا عالميًا، يوفّر أي شيء؛ ابتداءً بشفرات الحلاقة الجديدة الحادّة، التي يعجز وينستون سميث عن إيجادها، وصولًا لروايةِ من شأنها فضح ممارسات الرئيس الأميركي المنتخب، وليس الهدف الخروج بمقارنةٍ مضادّة عن الموجود والغائب بين العالمين، بل إيضاح الفرق بينهما، بين ما حاول أورويل تصويره لنقد السلطة الشمولية في روسيا الستالينية، وبين الولايات المتحدة الأميركية اليوم، بصورتها التي حاولت تكريسها منذ أيام ستالين نفسه.

فمحاولة تصوير دونالد ترامب كـ "الأخ الكبير" تُحرِّف شيئًا من الماضي –وهي ممارسة يعرفها جيدًا قراء الرواية- فهو لم يهبط على البيت الأبيض، بفجائية تسلم ديكتاتور لمقاليد الحكم في بلدٍ ما، بل كان نتاجَ الديموقراطية الأميركية، وفاز عبر عمليةٍ انتخابية واجه فيها مرشحون من الحزب الجمهوري أولًا ومن ثم مرشحة الحزب الديموقراطي، ليتغلّب عليها بسبب المجمع الانتخابي، الناظم للممارسة الديموقراطية كما توصف وظيفته، رغم تفوّقها بعدد أصوات الناخبين، الأمر الذي يبدو أنه يحل ثانيًا من حيث الأهمية في آلية الاقتراع الأميركية.

كما أن فوزه جاء نتيجة عوامل عدة، أبرزها إحباطٌ اقتصادي لم تتعاف منه الولايات المتحدة منذ أزمة الرهن العقاري عام 2008، استطاع الرئيس الجديد استغلاله لصالحه عكس ما حدث مع كلينتون التي أضرها ارتباطها وتوجهها إلى وول ستريت. وفي القرن الواحد والعشرين –وعلى الأقل في الدول التي يعمل ضمنها أمازون-فإن القمع والخوف لم يعودا حاضرين، بالمعنى التقليدي، بقدر ما بات الشكل الاقتصادي لهما حاضرًا عبر نموٍ اقتصاديٍ متباطئ وانحسارٍ في فرص العمل وتدهورٍ تشهده مدنٌ صناعيةٌ بمن يقطنها وغيره، وهذا ما لن تستطيع الرواية، أو من يطرحها اليوم، توصيفه وتتبعه للإجابة عن سؤال: كيف وصل الأخ الكبير إلى البيت الأبيض؟

وإذا ما أردنا أن نكمل الحديث عن تغيير الحقائق عند الذين يخشون ذلك أنفسهم، فيكفي أن نورد مثالين، أولهما متعلق بـ "واشنطن بوست"، فالصحيفة الأميركية كانت من أولى الوسائل التي بدأت الدعوة للمقارنة مع 1984، إبرازًا لعدة مخاوف أهمها تعلق بحرية الصحافة. لكن الصحيفة نفسها، في العهد القديم –قبل ترامب-الذي يبدو أنه سيتحور كثيرًا، كانت قد دعت إلى محاكمة إدوارد سنودن، مسرّب المعلومات من وكالة الأمن القومي، رافضةً الدعوات إلى منحه عفوًا رئاسيًا، الأمر الذي يُصبح أكثر غرابةً إذا ما ذكرنا أن الصحيفة نفسها ربحت جائزة "بولتزر" لنشرها جزءًا من الوثائق التي سرّبها سنودن نفسه إلى الصحيفة، ويجعل الدعوة هذه موضع شكٍ.

ثاني تلك الأمثلة نشهده اليوم، بعد الحظر الذي أعلنه ترامب على دخول المواطنين من سبع دول ذات أغلبيةٍ مسلمة، كانت أبرزها سورية، بعد إيقافه عمل برنامج استقبال اللاجئين. القرار هذا، تُرجِم وفق معادلة الانسحاب على الرواية، بوصفه إغلاقًا "لأوقيانيا" على ذاتها، ورفضًا لمبادئ الولايات المتحدة الأميركية كبلدٍ قوامه المهاجرون عبر العصور، وأرضٍ للأحرار.

لكن السؤال الأجدر بالذكر: لم كلّ هذا الحزن؟ فالولايات المتحدة الأميركية في عهدها القديم الذهبي لم تستقبل سوى 10 آلاف لاجئٍ سوري وطردت سفاراتها غيرهم، ممن حاولوا الدخول بطرقٍ نظامية لشتى الغايات. ويثير الرقم الاستهجان، بالنسبة لدولةٍ عظمى، تقود العالم الحرّ من جهة، ولكونها "لاعبًا أساسيًا" في الأزمة السورية ومسؤولةً بشكلٍ أو بآخر عن استمرار النزاع السوري، وبالتالي تدفّق اللاجئين وانتزاعهم قسريًا من بلدهم من جهةٍ أخرى.

إن ما يقدّمه المثال الثاني هو أحد التغييرات الأساسية بين الإدارة الحالية والسابقة، حيث يكون الفارق كميًا لا كيفيًا؛ سياسةٌ معلنة وصريحة ضدّ سالفتها المختبئة وراء العناق الافتراضي والخطابات المؤثّرة، والأمر ذاته بنسبٍ متفاوتة عند جوانب أخرى، كالتضليل والصدام مع الصحافة وانتشار المعلومات، التي تتبلور بشكلٍ أوضح في عهد ترامب، وليست مفرزاته أو سمات عصره، ما يجعل الانتقال هذا أكثر سلاسةً، وأقل إثارةً لاستغرابٍ بحجم "الأخ الكبير".

وليس هذا دفاعًا عن ترامب، أو محاولةً للاستهانة بفترة حكمه وما يمكن أن تجلبه أو بدأت بجلبه، عبر القرارات التي تخرج من البيت الأبيض بتواترٍ مقلق، أو محاولته العسكرية الأولى في اليمن، التي انتهت بشكلٍ دامٍ - وليست المرّة الأولى-. إنما، وبوضوحٍ شديد، إجابةٌ عن تساؤلٍ مثل: هل أصبحت 1984 حبةً سحرية، من شأن وضعها موضع المقارنة أو الاعتماد على الجمل الرنانة التي تزخر بها كـ "الأخ الكبير يراقبك دائمًا" أو "الحب هو الكراهية"، أن تُكسِب من يستعملها حجةً لا غبار عليها رغم ضآلة الفروقات بين المُتهَم والمُتهِم؟

إن وسائل الإعلام التي لعبت هذه الورقة قضت الفترة الأخيرة محاولةً دفع هيلاري كلينتون كمنقذٍ للولايات المتحدة الأميركية، سواء عبر التركيز على كونها امرأةً في سباق الرئاسة، أو لكونها الخيار المنطقي البديل لرجل الأعمال الأبيض المتطرّف.

لكن المعركة لم تكن أبدًا بين الخير أو الشر، على النقيض، كانت الانتخابات الأخيرة الأسوأ منذ عقود، ودفعت كثيرين من الأميركيين لاتخاذ الخيار على مبدأ "من تكره أقل؟"، وعلى ضوء هذا فإن فوز ترامب لم يكن من صنعه وحده، بل من صنع الجناح الديموقراطي أيضًا، بخياره المتمثل بالسيّدة الأولى السابقة، بما مثلته للعديد من الأميركيين من فسادٍ مستشرٍ في النخبة السياسية وماضٍ يلاحقها منذ فترة زوجها وعملها كوزيرة للخارجية في عهد أوباما.

ما تقدّم ليس إلا للقول بأن اختيار روايةٍ بديكتاتورٍ كبير وشرٍ مبالغٍ في تصويره بحيث يصبح كاريكاتيرًا للشرّ نفسه، ليس إلا هروبًا من سيرورةٍ عبر التركيز على منتجها النهائي فقط، المتمثّل بالإدارة الجديدة، ورميًا للتهم على جناحٍ من قبل آخر، ومحاولةً لتغيير صورة الشر الحقيقي بما يحويه قاموسه من عنصريةٍ وكراهية وأذى، لم يولد منذ أيامٍ وحسب، بل يُمكن تتبّع آثاره، التي كان بعضها قريبًا من شكلها الحالي وبعضها الآخر تُرِك لينمو دون أن يحاول من يستهجنه اليوم أن يفعل شيئًا حياله، ويتبلور كمنتجٍ للديموقراطية الأميركية.

بحيث يُمسي السوق في هذا الترويج لها، من وسائل الإعلام وصولًا إلينا؛ المستخدمون العرب، بلا فائدة إلا - وبحسب الرواية ذاتها- في تجميل ماضٍ من "الانفتاح والمساواة" الذي يُفتَرض أننا سنفتقده، زخر أيضًا بفضائح التجسّس والمراقبة، ولم يكن بهذا الجمال لنا أو لهم، أو لـ "سنودن" الذي استطاع جمع رئيسين متعاقبين على ضرورة محاسبته.

المساهمون