قميص يوسف

قميص يوسف

08 يناير 2017
صفوان داحول / سورية
+ الخط -
كَم مرّة تناهت إلى مسامِعنا سورة يوسف بتلاوات مُتعدّدة، وأخذ خيالنا يمضي متجلياً وراء الأحداث؟ سورة وصفها القرآن الكريم بأنها "أحسَن القصص"، وتبارى مشايخ التلاوة المصريّة في دوزنتها على المقامات المُختلفة، والتعبير عن كلماتها ومواقفها "الدراميّة" بأصواتهم المُعجزة، وأُفردَت المقالات والدراسات، لبحث أثر "قِمصان يوسف الثلاثة" ودلالة استخدام كلمة قميص بدلاً من ثوب وهكذا.

لكن شيئاً آخر أثار انتباهي -بحُكم العادة غالباً- وهو قميص يوسف الذي شغفها حُبّاً، كان مفتاحي للتفكير في عادة حديثة، لمَ تحتفظ المرأة بقميص الرجل الذي تحبُّه؟ سواء إن كانت السينما تقلّد الحياة، أو أن الواقع استمَد وجوده من السينما، فإن الاحتفاظ بقميص الرجل الذي نحبّه، أو ارتداؤه في أوقات بعينها، أو محاولة سرقته في أحيان أخرى، هي تفصيلة لا تتغيّر في قصص الحُب المُشتعلة!


في التوراة تختلف القصّة عن القرآن قليلاً، فالقميص في القرآن قُدّ من دُبر، أي قُطع من الخلف حين كان يوسف يحاول الهرب من الفِتنة، أما في التوراة، فإن زُليخة احتفظت بالقميص كاملاً، حيث خلعه يوسف وهي تمسك به هارباً، وأرته لعزيز مصر حين حضر بعدها كدليل على أنه هوَ من حاول أن يراودها عن نفسها.

مرّة أخرى، أثر القميص، في علاقة تختلف قليلاً في آخر القصّة، ولكنها لا تخلو من الحُب العظيم أيضاً، حين عاد إخوة يوسف من قصره، وألقوا بقميصه على عيني يعقوب فارتد بصيراً، وكان قد ابيضّت عيناه من الحُزن، أي حُبٍ وشوقٍ ووعدٍ بالوصل كان يحمله القميص حتّى يُذهب الحُزن في لحظة؟

نعود إلى يوسف وزُليخة، اللذين وُقّرا في الخيال الشعبي العربي بشكل رائع، دفعا العديد من المغنين الشعبيين والشعراء على مر العصور إلى التغنّي بالملحمة العشقيّة، متخيّلين لها أبعاداً أكبر وأحداثاً أكثر لم تتوارد إلينا، كالمنشد الجزائري أحمد المازوني وهو يترنّم بالقصة كاملة باللهجة الجزائرية في قصيدة من نظم صالح بن درار.

فيما يركّز شيخ مدّاحي الصعيد المصري، أحمد برّين على قصّة الحُب من طرف زليخة إلى يوسف، مركّزاً على العشق الذي استبد بها، دون أن يبدو ليوسف دور في الأمر: "ولا تكوني كالتي قالت فذلكن الذي لمتننّي فيه وروادتُه وكادت أن تخلع كُل ملابسها".

واستكان في بال الشعراء حديثاً أيضاً، فها هي حبيبة محمود درويش تطلب منه أن يقول لها ما مَر في بال يوسف حين همّ بها وهمّت به، بما يوحي بصخب اللحظة العظيمة، وحمّلوا قميصه بالكثير، فقال الشاعر اللبناني شوقي بزيع: "ليس بيني وبين زليخةَ/ إلا قميصانِ من عفةٍ وتَشَهٍ".

لقد أعجبت الناس هذه الدرجة من التفاني في العشق من قبل زُليخة حتّى وإن كانت امرأة متزوّجة، وتعاطفوا معها سراً، وجهر بعض المتصوّفة بالأمر، فها هو الشاعر والمتصوّف الفارسي عبد الرحمن الجامي، يؤلف ملحمة "يوسف وزليخا، رؤية صوفية"، مُقترباً من التوراة، ومُشعِلها من خياله، قائلاً: "إن العاشق الصادِق لايعود قادراً على تمييز رائحة ذاته أو لونها، لأنه ليس مشغولاً بذاته، سواء بالمحبّة أو العداوة، بل شُغله الشاغِل هو المعشوق فقط".

إذا كان الرجال يتخيّلون أنها علامة انتصار أو امتلاك من المرأة، أو حتّى علامة خضوع وذوبان منها بإعلان ملكيّته لها، فيبدو أن الشاعر الجامي لديه تفسير عظيم، يتضافر فيه الدنيويّ بالصوفيّ بالعلميّ في نسجِ جَميل، لقد كانت جملته السابقة المُفسّرة هذه هي ما أنار في رأسي سؤالاً: ماذا عن الرائحة؟

في أحد يوميّاته يقول محمود درويش إنّ "الحنين هوَ الرائحة"، وفي أحد مساءاتي أنا، كتبت أن الشوق لو فُرك من على جلدي لخرجَت رائحة حبيبي، وأحلى الأيّام دائماً، هي عندما تعلق رائحته المميّزة بملابسي، واكتشفها بعد يومين أو ثلاثة فجأة، لكأنه حضر هنا الآن! كاملاً بحديثه ولمساتِه وعطفه ورقّته!

يقول بيت فرون في كتابه "الرائحة، أبجدية الإغواء الغامضة"، إن الروائح يمكنها أن تحدث تغييرات جسميّة جذرية تماماً دون وعي منا بذلك، وأن لكل منا "جواز سفر شمّي"، بشكل مبسّط، رائحة مركّبة وخارجة من عوامل كثيرة، وأن ذاكرتنا للروائح أكثر تعقيداً "إن ارتبط في وعيك حُكم سبق أن أبرمته بصدد أمر أو شيء ما برائحة معينة، فإن ذاك الحكم أو التصوّر يأبى أن يبارح ذاكرتك وعقلك، صحيح أننا نعتاد الروائح، لكن هذا لا يتم إلا عبر الإشراط والتعود، بحيث يمكن القول أننا لا نشم الروائح فيما نحن واعون بها كل الوعي، لكننا ومن ناحية أخرى أبطأ في استيعابنا لما تحدثه الروائح من آثار على حياتنا الانفعالية والعاطفية وعلى تصرفاتنا، بحيث يصل الأمر لحد الاقتصار على مستوى رد الفعل الجِسمي استجابةً لرائحة ضعيفة أو اعتيادية.. قد نجد أنفسنا تحت تأثير غير واعٍ بإحدى الروائح مدفوعين للقيام بعملٍ أو تجنُّب آخر أو للشعور بإحساس معيّن دون إدراك واضح لمسبباته".

نحن نرتدي القميص إذن، أو نحتفظ به، لأن رائحته تذكّرنا بالساعات التي سبقت خَلعه، برائحة سعادتنا واندماجنا التام، ونرتديه في الأيّام العادية، حتّى تستعيد ذاكرتنا الشميّة الأيّام الرائعة، ويظل الوعدُ بالوصل مُتجدداً.

ويبدو أن زُليخة كانت تجد أيضاً ريح يوسف ولم تتوقّف عن تصديق ذلك، حتّى منحتها القصص الشعبيّة تاريخاً مغايراً، وكافأتها بأن تزوّجت يوسف في آخر الأمر وُوعدت بهِ في الجنّة، كأن شغفاً يصل إلى حد "الرائحة التي تعلَق بالقميص"، هوَ ما انتصر للحُب رغم كُل مآسي الحكاية.

المساهمون