هنا في الرّقة.. الإرهاب يقدّم العزاء

هنا في الرّقة.. الإرهاب يقدّم العزاء

04 يناير 2017
ركام من الدمار في الرّقة (الأناضول)
+ الخط -

رغم أن كل أشكال المقاومة الميدانية انتهت في مدينة الرّقة السورية، إلا أنها لم تنتهِ في صدور أهلها، "عاصمة التحرير" التي سميت هكذا بسواعد أبنائها، و"عاصمة الخلافة" على أشلاء أبنائها.

شيء ما دفعني إلى الكتابة على عجلٍ لأوّل مرّة في حياتي، ربّما لأنّ ما يُكتب له وقع خاص في ذاكرة المتلقي أكثر من أي وسيلة أخرى، هي طريقة تحمي الكاتب من غصّة الحديث كمن يخطُّ وصيته الأخيرة على فراش الموت.

الموت أرحمُ من أنّ تكتب عن وداع الأحبّة، عن المنسيين والمقهورين تحت سياط الجلادين في مدينتي القابعة هناك في البعيد، خلف الشمس وخلف كل قانون يحمي أهلها، أولئك الذين فرضت عليهم الجغرافيا ورمتهم الأقدار في مكان أطلق عليه العم كاميرون "رأس الأفعى".

في الرقّة "عاصمة الخلافة المزعومة"؛ الحياة فيها على أعلى درجات المقاومات الشعبية التي ألفتها وأنا في عقدي الثالث من العمر، فلا حجارة الرقّة مثل تلك التي في فلسطين، هنا في مدينتي مثقلة بأنين العابرين وصرخات المصلوبين، مغسولة بدموع من هُجّر تحت سيوف المعتدين، وبأنين من يرزخ تحت حفيف السياط.

قال الكاتب السوري عبد السلام العجيلي يومًا "إنّ الرّقة هي هبة الفرات للأرض"، يا عُجيلي إنّ الفرات قد شبع موتًا وأصبح ينبوعًا للعابرين.

بعد تحريرها من نظام الأسد الابن، وهدم تمثال الأسد الأب الجاثم على صدور أبنائها حتى ألفوه مرغمين، كانت الرّقة السورية أوّل المدن المحررة بالكامل، مزدهرة بسواعد شبابها، إلى أنّ بدأ النظام بإحراقها، مرتكبًا في حق أبنائها مجازر دفعت الكثير من أهلها للنزوح.



ومع الغياب شبه التام للمؤسّسات الخدمية، إلا ما شغله ثوارها، بغية سد الفراغ الحاصل في مؤسّسات الدولة، كانت البداية بتشكيل المجلس المحلّي وتولّيه الأمور الخدمية بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني حتى وصلت زهاء الثلاثين، تتنافس باختلاف أنشطتها، وتوجهات منتسبيها في تقديم الدعم للمدنيين، رغم نقص الدعم والخبرة والتجربة، إلاّ أنّهم استطاعوا إثبات وجودهم، مناصرين الحقّ على الباطل، مستنكرين وفاضحين للاعتداءات التي ارتكبتها بعض الفصائل في حق المدنيين والممتلكات العامة والخاصّة، بما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

للطغاة أسبابهم المتشابهة على مرّ العصور، التي تدفعهم للضرب بيد من حديد ونار، فلا تميّز بينهم إلا بالألوان، فكان لذوي الرايات السود نصيب من الرّقة بالخوف والترهيب، فعاثوا في أهلها خطفًا واغتيالًا وغدرًا، منهم من وصلته رسائل مباشرة بضرورة ترك العمل والتزام بيته والتنحي جانبًا، ومنهم من شكّل خطرًا محدقًا لا ينتهي إلا بخطفه من النور.

كثيرون من اختاروا المسير في الطريق، رافضين الخنوع، واصلوا بإصرار الثوّار دربهم نحو رفع السواد، لينتهي بهم المطاف ذكريات خلف جدران السجّان الجديد، ومن عجزوا عنه وُجد جثة هامدة في أحد طرقات العاصمة.

منهم من هاجر ومنهم من هُجّر، تاركين خلفهم جدران مدينة ترزخ بالأحلام والوعود بالعودة، وبقيت حجارة العاصمة على أوجاعهم شاهدة، فلا الحجر يُنطق دموعهم، ولا الدموع تكفي أن تبكي فقيدهم.

بعد فوات الأوان، ومع بدايات العام الجديد 2014، وقعت الواقعة بين من تبقى من كتائب الجيش الحرّ، وتنظيم "داعش"، لينتهي المطاف بسيطرة الأخير على العاصمة الخضراء بأشجارها وأعلام ثورتها، صابغين جدران الرقّة بسواد من ظلم وظلام، ولتتحوّل ساحات الحرية منصّات إعدام وصلب ورمي من علوٍ شاهق، ومسرحًا لنشر الرعب والذل.

في مدينتي، لم يُقتل غاندي ولم يُصلب غيفارا، ولم يُعلّق مانديلا على بوابتها الشمالية، من قُتل ومُثل بهم هم البسطاء، من يظنّون أنّ حب الأرض سياسة، وأنّ كلمة الحقّ مقاومة تكفيهم كي يقف الكون كلّه معهم، من يعتقدون أنّ "الأرض ناموس للّي يفهم" كما قال أحد شعرائها، ليقاوموا الظلام الأسود والأحمر والأصفر، بمنطلقات ثورتهم البسيطة.

في غيابٍ كاملٍ للأعلام -إلا أعلام الغزاة- وانعدام التواصل، وإذا وجد يكون بحذر شديد مع الأهل والأصدقاء في العاصمة، تصلنا الأخبار متأخّرة جدًا، إلا الموت يصل مسرعًا دون تفاصيل، مع الهاربين من بطشهم خارج حدود سيطرتهم.

لقد مرّ أكثر من تسعة أشهر على مقتل شاب بعدما حاول إسعاف والده المريض، ومحاولة علاجه خارج حدود "الدولة المزعومة" بعدما تمّ منعه.

أصدر الغزاة منذ سيطرتهم على المدينة قرارًا يمنع خروج أي مدني إلى "أرض الكفار" كما يسمونها إلا بشروط تشبه المعجزات، ترتبط بالأمراض المزمنة بكفالة قدرها تعب السنين، بشرط العودة إلى الديار وإلا يُباح كل شيء، توفي الأب بعد عدّة أيّام نتيجة جلطة دماغية، فهم لا يريدون لأحد أن يخرج سالمًا وإن بقي فلا يبقى سالمًا.

حضر مراسم الدفن قادة من "داعش" لتقديم العزاء، إلا أن الابن دون تفكير بالعواقب ومشاهد الصلب المتكرّرة التي مارسها الغزاة في الساحات والشوارع، لم يقبل العزاء منهم؛ قاومهم وطردهم وشتمهم ودولتهم ليتم اقتياده إلى قاضيهم ويحكم عليه بالموت إفسادًا بالأرض وإهانة للاسلام ودولته.

نعم! رحل الأب والابن معًا وبقي لأهلهم ولنا القهر.

‎لم يتوقّف حديث المهجّرين هنا وهناك، عند الإصغاء لأحدهم، أمعنُ النظر في عينيه أعرف أكثر معنى القهر والحزن والخوف، معنى الحياة والموت والفرق بينهما، حين يتحدّث عن شاب في الثلاثين من عمره قُتل في عيده وعيد الناس، بعدما قتَل من طعن في شرفه وأهان زوجته وسط المدينة بحجّة "العورة" التي في حذائها، وهو الأمر الذي لا يناسب "عظمة الدولة" وهيبتها.

‎نعم رحل الشاب، ولم يأت العيد، والشاهد طفلان ينتظران عيدهم ووالدهم الذي لن يعود.

ليكمل حديثه؛ ما ذنب ذاك الشعب المظلوم المسلوب من كل حرّياته ليساويه العالم بالمعتدين، ويعتبروا أنه حاضن للإرهاب مصدر موته، ألا تكفيه طائرات الموت التي لا تفرّق بين كبير وصغير ظالم أو مظلوم؟ يتساءل وينهي حديثه: "أهل الرگة مگرودين".

رغم الموت والقهر هناك، في كل صوره وما تحمله أكتاف الرجال من ظلم المعتدين، إلا أنهم راسخون ثابتون في أرضهم كأشجار الزيزفون، عقيدتهم في تراب أرضهم المجبولة بدماء المظلومين.

سيرحل الغزاة يومًا ويعود الفرات نهرًا ينهي سنوات الظلام، وتعود الحجارة مثل لهيب النار نيزكًا محطمًا سيوف الغدر والعار، ستعود الضحكة والصرخة بغضب الأحرار، وتعود للساحة أقدام هدمت الأصنام وحرّرت البلاد والعباد.

المساهمون