معتقلو حراك الريف.. ثائرون ولكنّهم مسالمون

معتقلو حراك الريف.. ثائرون ولكنّهم مسالمون

09 سبتمبر 2017
(حركة الاحتجاج في منطقة الريف، تصوير: فاضل سينا)
+ الخط -

شاكر المخروط.. "المختلف"
كان شاكر المخروط لا يُساوم في مواقفه ولا يتردّد في التعبير عمّا يؤمن به حتى ولو كلّفه ذلك غاليًا. كان في صراع دائم ضدّ من يريد أن يصادر حرّية الجميع في انتقاد الحراك، واليوم لم يعد خافيًا أنه لم يكن على وفاق تام مع ناصر، لكنه كان على وفاق تام مع الحراك ومع فلسفته. ناضل إلى آخر نزف مع قيادات الاحتجاج وكان مؤمنًا بأن الخلاص من البطالة التي تفتك بالشباب لا يمكن أن يتأتى إلا بمزيد من الضغط في الشارع.

ولد الشاب الخلوق في شهر فبراير/ شباط من سنة 1985 في الحسيمة ويتجاور كثيرًا في السن تقريبًا مع كل من اعتقلوهم ظلمًا وعدوانًا. في مقهى "كالاكسي" أو في "لابيل فو"، كان يناقش مستقبل الحراك وخطواته المقبلة، ولأن نسبة الأدرينالين كانت مرتفعة عند المناضلين ممن اختاروا التضحية بأنفسهم في سبيل إقليم كامل، فقد كانوا مستعدين في كل حين إلى الذهاب للسجن.. وتلك ضريبة النضال.

حصل المخروط، المشهود له بدماثة الأخلاق وقدرته على الحوار الهادئ، على شهادة البكالوريا، ثم سجّل في جامعة محمد الأول وكان يشتغل سائق تاكسي ويشتغل كذلك في محلّ والده للمواد الغذائية إلى جانب أخيه.

قبل اعتقاله بدقيقتين كتب لصديقته نلتقي قريبًا، كمن كان بحدسه يتوقّع أن يرافق أصدقاءه، لكن حلمه، كما يحكي أحد أصدقائه مازحًا، "أن يذهب عبر الهليكوبتر إلى الدار البيضاء"، وكذلك كان الأمر. كان عازمًا أن يتزوّج هذا الصيف، لكن شاءت الأقدار أن يقضي صيفه في عكاشة بمعية أصدقائه والتهمة: المطالبة بالعدل والكرامة.


نبيل أحمجيق.. "قلب الحراك"
المناضلون من أمثال نبيل أحمجيق نادرون جدًا، فحتى عندما اعتقل أصحابه ورفاقه في النضال والسلمية خرج بفيديو يدعو فيه إلى التشبّث بالسلمية والمطالب العادلة للساكنة. طيلة الاحتجاج السلمي بالمدينة كان يوصف بـ "الدينامو". عقلٌ يشتغل ليل نهار، يفكّر، ويبدع، يناقش ويختلف، يحب ناصر لكنه متحرّر منه في الوقت نفسه، متشابهان لكنهما مختلفان في آن واحد.

ليس التمايز كبيرًا بين نبيل أحمجيق وناصر الزفزافي. كلاهما كان يصدر عن القناعات نفسها، وكل من تتبع مسار "الحراك" يعرف إلى أي حد كان التطابق بينهما كبيرًا جدًا. نبيل أحمجيق كان حاضرًا دائمًا في المظاهرات الكبيرة وحاضرًا في كل الاجتماعات، ولم يكن يتوانى عن المشاركة في احتجاجات خارج المدينة. يؤكّد صديق له أن "جينات" التمرّد ورثها من عائلته، وعلى عكس ما كان رائجًا، فإنه "كان من أكثر المعتدلين في الحراك الشعبي".

قذفت به والدته الكريمة - شفاها الله - إلى الحياة يوم 31/12/1984 في سنة أخرى سوداء من تاريخ الريف الحديث. كبر "الدينامو" في مدينة وجدها خارج أجندة الدولة ومتهمة على الدوام بالانفصال وبالاتجار بالمخدرات وبالتهريب، عاش في بيئة مشحونة كما عشناها جميعاً، في تلك المدينة المتوسطية الآسرة.

قبل أن ينخرط في العمل كان عاطلًا عن العمل، لكنه لم يكن عاطلًا عن الحلم، يمتاز بقدرة عالية على تحويل لحظات المأساة إلى المرح، لم يسعفه الحظ في الحصول على عمل، على الرغم من الامتحانات المهنية التي اجتازها. يقول صديق مقرّب جدًا منه "إنه إنسان محبوب جدًا وسط معارفه ويتوفّر على كاريزما، وهذه أضيفها لك، إنه هو من يتكلّف بذبح أضاحي العيد".

نبيل أحمجيق العاشق لخالد إزري والموسيقى الغربية، حاصل على شهادة البكالوريا في العلوم التجريبية ودبلوم في تسيير المقاولات، لكنه حاصل أيضًا، وهذا هو الأهم، على حب الناس لجرأته وشجاعته في الدفاع عن وطنه ومدينته ولو على حساب نفسه.


محمد الأصريحي.. "صحافي الحراك"
الصحافة كانت حلمًا قديمًا لمحمد، ولأن ظروف الحياة والدراسة لم تسعفه في أن يخطو على درب الحلم، فقد أنشأ موقعًا إلكترونيًا اسمه "rif 24"، وعلى الرغم من عمر الموقع القصير إلا أنه ثبت مكانته ضمن مشهد إعلامي محلّي موسوم بكثير من الفوضى. هذا العشق الذي نما مع محمد للصحافة جعله في كثير من اللحظات يكون الشاهد رقم واحد في كثير من الأحداث، ومنها ما وقع في بني بوعياش سنة 2011. كان شاهدًا حقيقيًا لحظتها بفيديوهات لم يكن بمستطاع إلا ابن بوكيدان أن يوثّقها بآلة التصوير التي لم تكن تفارقه.

من مواليد شهر يوليو/ تموّز سنة 1987، حصل على دبلوم تقني ثم على دبلوم من الفندقة، لكن المدينة الصغيرة - وكان يحضر لبحث في الدراسات الأمازيغية - لم تكن كبيرة ما يكفي لتستجيب لطموحه الشخصي، ولذلك آثر أن يذهب بحلم الصحافة إلى آخر قطرة.

في الحراك الشعبي الأخير كان حاضرًا في المظاهرات الكبيرة والصغيرة ونقل بالتفصيل الدقيق بشكل مباشر ما يجري بالمدينة، وكان الآلاف من الداخل والخارج يتابعون "لايفاته" على صفحته في "فيسبوك"، وانتشرت فيديوهاته الموقعة. في هذه اللحظة نسج علاقات قوية مع قيادات الحراك وصار جزءًا منه، وفي لحظة من اللحظات كانت الأنظار كلّها مركزة على صفحة الموقع، بالإضافة إلى صفحات أخرى انتعشت أثناء الحراك.

توقف موقعه عن الاشتغال بعدما تحوّل موقعه في "فيسبوك" إلى موعد يومي لمعرفة التفاصيل الدقيقة للحراك. ومع ذلك استمر في العمل تحت ضغط شديد، واستمر في نقل احتجاجات الريف حتى عندما زج بأصدقائه في الحراك في السجن.

كان المحب للسينما ينتظر دوره، وكانت لحظاته الأخيرة قبل الاعتقال أشبه بفيلم هوليوودي، إذ ساد الاعتقاد في البداية أنه اعتقل مع ناصر، ثم تبين فيما بعد أنه ظل طليقاً بعد ذلك بأيام، ثم ما لبث أن اعتقل بطريقة لا تقل هوليودية عن قصة اختفائه... إنه بحق "عين الحراك".


محمد جلول.. "مناضل مع سبق الإصرار"
كان محمد جلول حاضرًا في كل الندوات ومشاركًا منخرطًا في كل الديناميات. في لجنة السواني احتجاجًا ضد مشاريع سي دي جي، وفي جمعيات التراث والذاكرة، لكن بروزه الحقيقي كان داخل منتدى شمال المغرب لحقوق الإنسان، والفضاء النقابي الديمقراطي بمعية أصدقائه الذين يقتسم معهم أحلام اليسار بالمساواة والعدالة الاجتماعية، هناك كان يمارس قناعاته ويعبر عن أفكاره وكان مقررًا دقيقًا لكل أنشطته وعضوًا مؤسّسًا - المنتدى - لفرعه بالحسيمة، وكاتبًا لا يشقّ له غبار على صفحات الجرائد المحليّة.

في سنة 2011 أصبح قياديًا بارزًا في حركة "عشرين فبراير"، وقاد حركة احتجاجات كبيرة بمدينة بني بوعياش إلى جانب العشرات من رفاقه. وقتئذ كان يقود المظاهرات وشارك في اعتصام الباشوية الشهير ونفذ احتجاجات جرت عليه غضب السلطة. على الرغم من ذلك واصل جلول احتجاجه في بني بوعياش الذي انتقلت شرارته إلى بلدات أخرى مثل إمزرورن وبوكيدان. وفي تلك اللحظة لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي قوية ومؤثّرة كما هي اليوم.

الاحتجاجات المتأثرة بمزاج العشرين من فبراير تحولت فيما بعد إلى مواجهات عنيفة بين الأمن والمتظاهرين في بلدات مختلفة أدت في الأخير إلى اعتقاله رفقه آخرين وأنزلت ضدهم أحكام ثقيلة قضى منها محمد جلول خمس سنوات كاملة.

جلول الذي كان يشتغل مدرسًا، شاءت الصدف أن يتزامن خروجه من السجن مع ذروة الحراك، وقبل أن يسترجع أنفاسه حتى، وجد نفسه يتجّول في القرى والبلدات يشارك مع الزفزافي في تعبئة "الجماهير الشعبية"، على حد تعبيره، من أجل التظاهر. بعد أيّام قليلة من خروجه من السجن تحوّل جلول إلى رمز جديد للحراك ولم يكن يصدق أحد بعد المدة التي قضاها في السجن أن يعود إليه.. وكذلك كان، إذ اعتقلته من حي البادسي في البدايات الأولى لحملة الاعتقالات، ليكون ضمن النواة الأولى لقيادات الحراك بسجن عكاشة.

يقول صديق مقرب منه في شهادة حكى لي أنه خطها بالدموع أقتبس منها هذه الفقرة مع التصرف:

"تعرفت على محمد جلول سنة 1995 أو 1996 وسرعان ما توطدت علاقتنا كثيراً وأصبح أقرب أصدقائي، لكن صداقتنا لم تدم طويلاً بسبب هجرتي رفقة عائلتي بحثاً عن تحسين مستواي المعيشي. وعلى خلاف الصورة التي تنقل عنه الآن فإن جلول كان أكثر الأصدقاء مرحاً وقدرة على إضحاك الجميع. كان صادقا في كل ما يفعل، ويقرأ بنهم، ولأن الريف ينقسم في حب الكرة إلى برشلونيين ومدريديين، فإن جلول وحده كان يشجع ديبورتيفو لاكورونيا. جلول كان ضد الظلم وضد سيطرة الأعيان، وفوق ذلك عاشقاً لمحمد بن عبد الكريم الخطابي".


إلياس المتوكّل.. "الفيلسوف"
ربّما كان اعتقال إلياس المتوكّل أكثر الاعتقالات جدلًا؛ تماست يومها خطوط كثيرة في الدولة لأنه اعتقل بالقرب من مقرّ الجهة وهو خارج من تكوين تنظمه الجهة، وتلك قصّة تطول. لم يشفع له لقب "فيلسوف الحراك" في أن يبقى خارج أسوار السجن، ولم تشفع له دعواته المستمرّة لأن يتحول الحراك إلى أفق إنساني لا أن يصير حراكًا قبليًا. ربّما غطى وجود قيادات بارزة مثل ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق على دوره الحيوي، لكن العارفين بما جرى طيلة ثمانية أشهر يدركون جيدًا كيف أنه كان واحدًا من الملهمين ومبدعي الشعارات.

إلياس المتوكّل، القابع وراء السجن اليوم واحد من الذين اختاروا العمل بصمت ومن دون ضجيج، وكانت بصمته بارزة. من مواليد شهر ديسمبر/ كانون الأول سنة 1986 وحصل على شهادة البكالوريا سنة 2011 قبل أن يتابع دراسته في شعبة الفلسلفة وبالموازاة مع ذلك، كان يتعقب حلمه في الموسيقى بمعهد تطوان.

شغفه بالموسيقى صرفه كثيرًا عن المسار العلمي الذي ارتضاه لنفسه بالجامعة، وعلى هذا الأساس، فإن المتوكّل أصبح عضوًا بارزًا في مجموعة "سيفاكس" ثم "إسبيرانسا". لا أحد من الجيل الجديد المحبّ للموسيقى يمكن أن يخطئ في اسم المتوكّل ولا أحد من الذين رافقوه طوال ثمانية أشهر في الحراك الشعبي يُنكر أن الحلم بالعدالة والكرامة الاجتماعية كانت شعارات ذات نفس رومانسي لدى إلياس.

قبل أن تلقي عليه السلطات القبض، كان المتوكّل يشتغل من دون توقف على تسجيل أغنية حول الحراك، وظهر في مقاطع فيديو قبل اعتقاله يدعو إلى "أنسنة الحراك" ويتحدّث عن السلمية وعن عدالة القضايا التي يدافع عنها شباب الحراك.

المتوكل ليس فنانًا ملتزمًا أو مناضلًا كما يريد أن يحشره بعضهم، إنه فنان بسعة إنسانية ولذلك أبدع في لعب دور مركزي لإحدى أشهر المسرحيات التي أنتجت بالمدينة وهي "بيريكولا". يقول أحد المقربين منه "كان في المسرحية مثل موسيقي، ينتقل فوق الخشبة بشكل سلس جدًا وكأنه يعرف المسرح منذ قرن، هادئ ومتواضع، مؤمن بالفن حدّ التقديس"، لكن ليس كل من يؤمن بالفن وبالحياة يفلت من السجن. وإلياس اليوم في السجن المحلي بالحسيمة".


ناصر الزفزافي.. "القائد"
كان يعتدل في جلسته خلف مكتبته وخلفه صورة عبد الكريم الخطابي. يعدّل هاتفه، ويشرع في مناقشة أفكاره والردّ على خصوم الحراك ومهاجمة الدولة والدكاكين، الذين يعرفونه جيّدًا يقولون إن ناصر في المقهى وناصر في الشارع وناصر في "اللايف" هو رجل واحد بخطاب عفوي وصادق. خلال ثمانية أشهر صار وجه الريف مختصرًا في الزفزافي وصار اسمه رديفاً للتمرّد، بل الأكثر من ذلك لم يستطع أي قيادي في حركة احتجاجية حتى في أيام العشرين من فبراير أن يصل إلى شهرته.

ولد الزفزافي سنة 1978 بحي شعبي في مدينة الحسيمة، وكان مثل أقرانه يدرك أن المدينة عزلت وهمّشت لعقود وضاع شبابها في الدراسة والهجرة، ولا شكّ أن هذا الهواجس ظلت تلازمه مدة طويلة إلى أن أصبح القائد الأول والملهم للحراك الشعبي بمدينة الحسيمة. بين ولادته واعتقاله وتوجيه تهم ثقيلة إليه، تقلب ناصر في الحياة واكتوى كما الآلاف من شباب المدينة بنار البطالة، ولكن في الوقت نفسه كان يكوّن وعيًا سياسيًا ساعده في ذلك والده ذو الهوى الاتحادي.

جرّب لاعب كرة السلة والطائرة الماهر، بشهادة من لعبوا معه، أن يشتغل في مهن كثيرة، لكنه في كل مرة يرى أحلام مدينته تنهار الواحد تلو الآخر، وبذلك يكون ناصر مرادفا لفشل جيل ومأساة فريدة بصيغة الجمع.

يوم مات محسن فكري، برز اسم الورياغلي العنيد إلى الواجهة بخطاب جماهيري صادر عن عاطفة تشعلها لحظة طحن مواطن من الحسيمة في حاوية أزبال، وما كان خطابًا عفويًا عاطفيًا ورغبة في "الاستشهاد" من أجل قضايا الريف أصبح مع توالي الأيام خطابات هادية لعشرات الآلاف من سكان المدينة. كان ناصر الوحيد الذي يمتلك القدرة على أن يوجه ويمنع وأن يصدر التعليمات، بيد أن شعار "السلمية" الذي رافقه إلى حدود اللحظات الأخيرة من اعتقاله، شكّل القوة الضاربة للحراك.

على الرغم من أن قيادات بارزة في الحراك اختلفت معه وانتقدت خطابه، إلا أنهم كانوا متيقنين أن جزءً كبيرًا من قوة الحراك تعود لـ ناصر الزفزافي. هذا اليقين لم يكن يحتاج إلى دليل، إذ يكفي فقط أن تبحث على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى وسائل الإعلام لتدرك إلى أي حد استطاع أن يصبح صانعًا للأحداث والرأي العام واستطاع أن يطحن في ظرف أشهر قليلة فقط "الدكاكين السياسية" كما كان يسميها، واستطاع كذلك أن يجمع من حوله عشرات الآلاف من الداخل ومن الخارج، ويوم خرجت كتيبة العثماني لتتهم الريفيين بالانفصال كانت الأنظار موجهة إلى ناصر. تجاوزت "لايفاته" كل الأرقام القياسية ومع الأيام كان الناس ينتظرونه وينتظرون توجيهاته.

مثل جميع المؤثرين الكبار في مسارات الإنسانية ما يزال ناصر الزفزافي هو القابع وراء القضبان يؤثّر في مسار الحراك وما زال الأطفال الصغار والنساء والشباب يهتدون به ويرددون شعاره الشهير "سلمية سلمية لا حجرة لا جنوية".


محمد المجاوي.. "الحكيم"
نحن أمام مناضل استثنائي وأمام سيرة حياتية مختلفة عن جميع قيادات الحراك. يوم اعتقل المجاوي تحوّل جزء كبير ممن يوصفون بالمعتدلين إلى متطرّفين حقيقيين؛ لأنهم بكل بساطة اعتقلوا عقلنا الجماعي، ويوم اعتقل المجاوي اعتقلونا جميعًا.

في سنة 1971 ولد المجاوي بزاوية سيدي يوسف، توفيت والدته ووالده وهو ما يزال صغيرًا لتترك ندبة عميقة فيه لم يبرأ منها إلى اليوم، لكن في المقابل وجد عائلة حنونة أسندته حتى اشتد عوده.

المجاوي الذي كان يراهن عليه الجميع كي يصبح الحراك أكثر عقلانية تقلب وتدرّج في كل مسالك النضال ومال قلبه جهة اليسار فمن مدرسة سيدي عابد التي كانت القلب النابض للحركة التلاميذية إلى جامعة محمد الأول بوجدة ثمة فصول مثيرة من حياة "الحكيم" تستحق أن تروى.

والفصل الأول من الرواية، هو أن الرجل كان علميًا حتى النخاع، فقرر أن يكمل دراسته بثانوية عمر الخيام بوجدة، ليبدأ احتكاكه المبكر مع مناضلي اليسار بكل أطيافهم، لكنه، وبسبب نشاطاته، طرد من الثانوية. طارد المجاوي حلمه في الدراسة ولم يحل قرار الطرد دون أن يتقدم إلى نيل شهادة البكالوريا كمرشح حرّ ثم بعد نجاحه التحق بكلية الحقوق.

يحكي أحد الذين عاشوا بجواره أنه في سنة 1991 كان آخر الملتحقين بعاصمة الشرق بداية الموسم الدراسي، غير أن صدف الكون المريعة قادته في أول يوم إلى مستشفى الفارابي بمعية فكري أومغار والمعكشاوي وبويازيذن، ما الذي حدث وقتها؟ تصادف وصوله مع هجوم الطلبة الإسلاميين أو ممن يصفهم بـ "القوى الظلامية" فتعرّض لإصابة بليغة. قيل له يومها إثر إجراء الفحوصات إن حالته جيدة لكن الآلام عادت لتوجعه ليكتشفوا أنه أصيب بكسر خطير اضطره إلى ملازمة الفراش لمدة طويلة.

في حي القدس بوجدة جاور يساريين كباراً، بل وكان يسكن في المنزل نفسه مع مصطفى الريفي، سفير المغرب لدى الفاتيكان، ومحمد الغامي أحد أدمغة الريف بالمهجر. في تلك الظروف المشحونة بالصراع المحموم بين اليسار والإسلاميين كان المجاوي عضوًا في الطلبة القاعديين قبل أن يحصل على شهادة الإجازة في الحقوق سنة 1995، لتبدأ مرحلة أخرى من النضال داخل جمعية المعطلين. انتخب نائبًا لرئيس الجمعية على المستوى الوطني بعد ليلة انتهت فيها التوافقات في "jour et nuit" بالرباط وحاور فيما بعد وزراء من حكومة اليوسفي وكان ينظر إليه على أنه الوحيد القادر على عصر كل التناقضات في بوتقة واحدة.

لكن المجاوي الميّال إلى المغامرة قد غادر قبل فترة قصيرة من اقتراب حصوله على عمل إلى فرنسا واشتغل بمطعم هناك. لم يبق طويلًا في بلاد العدل والأخوة والمساواة فمال جهة إسبانيا وبدأ مرحلة من النضال في صفوف النقابات العمالية.

عاد "الحنون" و"المحب للحياة" قبل مدة قصيرة من عشرين فبراير/ شباط، وليس غريبًا أن تجده في الصفوف الأولى من الحالمين بالحرية والعدالة ثم بعدها نجح في مباراة للتعليم وفي العام الثاني اعتقل واقتيد في هليكوبتير "خط الدار الحسيمة الدار البيضاء".

للمجاوي ابنتان، هما لويزة ودينا، وأحلام كثيرة وروح نادرة للتسامح والانفتاح والحوار وتقبل الانتقاد مهما كان قاسيًا. لنقرأ شهادة فكري أمغار رفيقه في الحياة والنضال: "كيف أصفه لك من أين أبدأ ومن أين انتهي، حنون لدرجة لا تصدق، متسامح بطريقة تدهش، حتى الذين يكرهونه إذا كان هناك من يكرهه حقًا، في كل فترات حياته كان منصتًا جيدًا ومحاورًا جيدًا، وهو صبور جدًا، ويتحمّل النقد، يتقن اللغتين الفرنسية والإسبانية، طموح ومثابر؛ مناضل حقيقي وقناعاته ليست معروضة في المزاد العلني".


أنس الخطابي.. "فنان الراب"
اتصل اليوم مساء وكانت حالته أفضل بكثير من المرة السابقة. قال لي متى موعد بروفيلي؟ قلت له قريبًا. أنس الخطابي مغني الراب مبدع لازمة "عماس وقا عماس وقطع بوراياس"، عرفته في الرباط صديقًا مقربًا من أخي وكنت أراه في مرّات كثيرة طوال السنوات الماضية. شاب مليء بالطاقة متحفّز لتحقيق حلمه والذهاب بعيدًا بفنه، قبل أن يجد نفسه بعد مقتل محسن فكري ضمن قيادات الحراك المشاركة في أنشطته ونضالاته.

في 19 مارس/ آذار 1992 رأى نور الكون لأوّل مرّة وترعرع في كنف عائلة ريفية وكان منذ خطواته الأولى في الحياة ميالًا للفن والموسيقى. وصل إلى مستوى البكالوريا قبل أن يؤدّي خصام له مع أستاذ إلى حرمانه من اجتياز الامتحانات، ولما انتهت العقوبة هذا العام خشي أن يذهب إلى القسم ثم يجد نفسه في السجن، لكن السجن كان قدره الذي حال دون أن يطارد حلمه القديم بالالتحاق بكلية العلوم للدراسة في شعبة المعلومات.

خلال الحراك الذي انخرط فيه انخراطًا تامًا فقد والده رحمة الله عليه، وشكل ذلك، حسب مقرّبين منه، صدمة قوية له، قبل أن يتعافى ويعود إلى الساحات. ومع ذلك عاند الفنان كل المثبطات ودرس سنة في مجال تدبير المقاولات، غير أن حلمه في أن يصير فنانًا كبيرًا استولى عليه ليستفرغ كل جهده ووقته.

قبل اعتقاله كان يحضر ألبومًا يضم أغاني تتحدث عن الحراك والريف والعمق الإنساني لمطالب شباب تنهشه البطالة. عنوان الألبوم استلهمه أنس من فلسفته في الحياة، إذ ظل يقول دائمًا أريد أن أكون صوتًا يعبر عن حلم جماعي "my letter". اليوم يقبع أنس في سجن عكاشة، لكنه ما يزال مؤمنًا أن الفن ينتصر على الظلم وعلى الاعتقال.

أنقل بأمانة رسالة حصلت عليها عبر الخاص مختصرة أنس الخطابي: "قطعت مئات الكيلومترات للحضور في أربعينية الشهيد محسن فكري، استضافني في بيته وسط أسرته وقدّم لي غرفته الشخصية، مكثت فيها يومين، شاب مجد هادئ يؤمن بالاختلاف، حديثه كلّه عن الحراك ومستقبله. كلما خرجنا من بيته متّجهين إلى الساحة يسلّم على الباعة وكل من نلتقي في الطريق ويدعوهم للالتحاق، وأسمع دعواتهم مع أنس (الله إرضي عليك.. حنا معاكم).. رجعت من الحسيمة وعلمت بوفاة أبيه وأخبرني بعد أنه تأثّر كثيرًا بالخبر.

ما زلت إلى حدود كتابة هذه الأسطر دائمًا أتصل برقمه حتى مع علمي أنه في أيادٍ لا ترحم وأنتظر يومًا يجيبني بضحكته المعتادة وأخلاقه الرائعة".

المساهمون