كيف تُؤمم الأموال في عصور الانقلابات.. مصر نموذجًا (1-5)

كيف تُؤمم الأموال في عصور الانقلابات.. مصر نموذجًا (1-5)

27 سبتمبر 2017
هكذا تُؤمم الأموال في عصور ما بعد الانقلابات(فرانس برس)
+ الخط -
رآه جمال عبدالناصر يدخن السيجار فتساءل: "ودا أممناه ولا لسه؟".
هكذا وبكل بساطة انتهت قصة رجل أعمال من أنجح رجال الأعمال في التاريخ المصري لمجرد أن ناصر لم يحتمل أن يراه يدخن السيجار!

إنه رجل الأعمال المصري "علوي الجزار" ابن الحوامدية، خريج كلية الزراعة، انطلق في صناعة الشاي بمشاركة ثلاثة من أشقائه، تزوج وأنجب ثمانية بنات، يقول المصريون (رزق البنات واسع)؛ مسيرة الجزار تؤكد تلك المقولة، إذ لم يكن شاي الشيخ الشريب هو إنجازه الوحيد، كان الجزار رئيس مجلس إدارة مصنع كوكاكولا وصاحب 70% من أسهم هذا المشروع، واستطاع أن يثبت أقدام المنتج في مصر والمنطقة عموما بنجاح، بخلاف الشيخ الشريب وكوكاكولا، كان لديه مصانع للسجاد والبلاط والموبيليات والشربات وماركة البونبون الشهيرة (فينوس) وكريم نيفيا، وكان صاحب مزرعة كبيرة بشراكة مع الخواجة إليكو انبثق عنها مطعم أندريا الشهير، وكان أيضا صاحب سينما الفانتازيو الشهيرة فى ميدان الجيزة وفندق شهرزاد.


كان علوي الجزار نموذجا لصنايعي الأعمال تنطبق عليه مقولة يحول التراب إلى ذهب، وكان نجاح مشروع تصنيعه للشاي نموذجا يستحق الدراسة، كان يستورد الشاي الخام من سيلان ويصدره مصنعا إلى معظم الدول العربية وكان تقريبا الشاي الرسمي المعتمد عند المصريين، بالرغم من وجود منافسين مثل شاي (زوزو) إنتاج مصنع الحوامدية، وشاي (كراون) إنتاج مصنع بورسعيد، لكن الشريب تفوق بخلاف الجودة بسبب العقلية الدعائية للجزار، فقد رسم فى وجدان المصريين بصورة الشيخ الشريب ملامح لشخص ارتاحوا له ولابتسامته سريعا، شخص من بينهم وليس نجما سينمائيا، به أبوة ويشعرك بقرابة ما أو بأنك حتما التقيت به، كما كانت إعلانات الصحف والمجلات تخاطب صاحب القرار في موضوع الشاي في كل بيت وهي المرأة، وكانت صيغة إعلانات الشريب واحدة دائما تقول: "يقول علماء النفس بعد دراسة أن المرأة تفوق الرجل في القدرة على تمييز طعم المر والحامض والمالح والحلو وأنها أدق من الرجل في تذوق الطعم، ولهذا اختارت السيدة المصرية شاي الشيخ الشريب مشروبها المفضل".

في بداية الستينيات تولى علوي الجزار رئاسة نادي الزمالك، وكان أصغر من تولى هذا المنصب سناً (38 عاما) وصاحب أقل فترة رئاسة (عاما واحدا)، وحقق إنجازات كثيرة أهمها حمام السباحة الأولمبي وتأسيس ألعاب جديدة بخلاف كرة القدم، أما في كرة القدم فقد حقق بطولة الدوري مرتين متتاليتين، قرر بعدها أن يستضيف على نفقته فريق كرة القدم العالمي (ريال مدريد) ليلعب مباراة ودية في القاهرة، وكان حدثا مشهودا، لكن هناك رواية تقول إن هذه المباراة كانت سببا في تعرض علوي الجزار لأذى التأميم، تقول الحكاية –والعهدة على الناقد الرياضي محمود معروف– أن عبد الناصر كان يشاهد المباراة تلفزيونيا، وكان الجزار يجلس في المقصورة إلى جوار رئيس نادي ريال مدريد، وحدث أن أشعل كل واحد منهما سيجارا فخما، سأل عبدالناصر عن الشخص الذي يدخن السيجار إلى جوار الضيف الأجنبي فقالوا له علوي الجزار، فسألهم: وده أممناه ولا لسه؟ وكانت الإجابة (لسه)، فكان قرار التأميم!

كان القرار عنيفا، صدر وهو في طريق عودته إلى بيته، تحت البيت وجد في انتظاره ضباط تنفيذ القرار، وكان أول ما فعلوه أنهم نزعوا من يده ساعته الرولكس، وسحبوا منه سيارته الفارهة!

هكذا إذاً تُؤمم الأموال في عصور ما بعد الانقلابات وهكذا يكون اتخاذ القرارات، عَل هذه القصة وغيرها تزيل الدهشة والاستغراب التي لحقت بالمجتمع المصري بعد صدور عدة قرارت جديدة بالتحفظ في الفترة الماضية على عدد من رموز ريادة الأعمال في مصر وبُعد البُعدين تماما عن السياسة والإخوان.

قرارات التحفظ المستمرة أصدرتها ما تسمي بلجنة التحفظ على أموال الإخوان، هذه اللجنة التي ولدت منذ اليوم الأول لها وهي مخالفة للقانون والدستور، ورغم ذلك استمرت بل وتوسعت في إصدار قرارات التحفظ.

في سلسلة المقالات هذه نحاول تباعا الإجابة عن كيف تُؤمم الأموال في عهد الانقلابات.. مصر نموذجا.
نتتبع كيف بدأ التحفظ على الأموال في مصر في عهد السلطة العسكرية بعد ثورة يوليو وبعد 30 يونيو.
وهل اللجنة التي شكلها مجلس الوزراء في 2013 هي لجنة قانونية وتستمد شرعية دستورية أم لا وما هي معايير هذه اللجنة؟

عبدالناصر وفكرة التأميم
في صيف 1961 استدعاني الرئيس جمال عبدالناصر لاستراحته في المعمورة، ذهبت إليه فحدثني عما نعانيه من نقص في السيولة وتأثير ذلك على البدء في بناء السد العالي، ورغبته في معاقبة الأجانب في مصر جزاءً لهم على ما فعلته بنا دولهم، واقترح أن نضع يدنا على ما يمتلكه الأجانب في مصر، وقال لي إنه يفكر في التأميم، وقتها كانت الوحدة مع سورية لا تزال قائمة، فحذرته من أن يُفهم قراره بشكل خاطئ من قِبل السوريين، فاقترحت عليه سن قانون للضريبة المتصاعدة، على سبيل المثال من يمتلك مليون جنيه يدفع ضريبة 60% ومن يمتلك 2 مليون يدفع ضريبة 70% وهكذا، فأعرب عن موافقته وطلب مني وضع تصور كامل للموضوع، وأن أمنحه ذلك التصور في العاشرة من صباح اليوم التالي، سهرت طول الليل أكتب الفكرة وطريقة تنفيذها، وفي الصباح ذهبت إليه في الموعد، فلم أجده، وعلمت أنه في فيلا المشير عبدالحكيم عامر، فعرفت أنه غيّر رأيه.

ذهبت إليه هناك، وكان معهما عزيز صدقي، وبمجرد دخولي فوجئت بالمشير يقول لي: "إيه اللي أنت عاوز تعمله ده؟"، فقلت له إنني سهرت للانتهاء من القانون الذي طلبة مني الرئيس عبدالناصر، وانتهيت من تفاصيله. فقال لي انسَ ما كتبته، لقد سهرنا وفكرنا ولم يعجبنا ما اقترحته، واستقررنا على التأميم الشامل للمصريين والأجانب! فنظرت للرئيس مندهشاً ويبدو أنه قرأ على وجهي عدم الاقتناع بالفكرة، فقال لي: "معلهش يا حسن، بس لعلمك إنت اللي حتنفذ القرار".

فهمت من الحديث أنه يمنعني حتى من تقديم استقالتي لو فكرت فيها، نعم لم أكن مقتنعا بالقرار ولكن نفذته ووقعت الكثير من التجاوزات عبر تطبيقه، على سبيل المثال كان يأتيني رجال بسطاء يمتلكون ورشة صغيرة أو مصنعا لتعبئة الزجاجات، ويتعامل معهم الموظفون على أنهم من أصحاب الملايين! وعرفت أن وزير التجارة قام بحصر الملاك عبر دفتر دليل التليفونات، ومن دون تمييز بين وضعهم وما يمتلكونه، فحادثت الرئيس وشرحت له الموقف، فقال لي إنه يقبل بحذف اسم أي مواطن أعتقد أنه لا يناسبه تطبيق تلك القرارات عليه.

هذه كانت كلمات وزير الاقتصاد ومنفذ التأميم في عهد عبدالناصر(حسن عباس زكي).

هكذا كانت تؤخذ القرارت من قبل المجموعة العسكرية الحاكمة للبلاد، كانت لا تحترم التخصص ولا تفعل غير ما تراه، هكذا تحولت العشرات من قصص النجاح إلى دمار نتيجة هذه القرارت المجحفة، فقد كانت هناك العديد من قصص النجاح لرجال أعمال مصريين ما قبل ثورة يوليو ثم جاءت قرارت التأميم المجحفة لتقضي علي هذه القصص وتحولها إلى كوابيس بين ليلة وضحاها وجدوا أنفسهم فقراء في العراء، بعد أن هوى سيف التأميم على ممتلكاتهم وأموالهم.

بين علوي الجزار وعلي فهمي طلبة
وهنا المفارقة ذاتها، فبين رجل الأعمال علوي الجزار وبين علي فهمي طلبة صاحب محلات راديو شاك وأحد أبرز رجال الأعمال المصريين الحاليين؛ خرج علينا بعض الإعلاميين المحسوبين على النظام أن سبب التحفظ على أموال الرجل هو صورة للرجل بجوار الدكتور محمد مرسي أثناء زيارته البرازيل برفقة وفد من رجال الأعمال المصريين!

هل رأى السيد عبدالفتاح السيسي الصورة للرجل بجوار الدكتور مرسي فانزعج كما انزعج عبدالناصر من رؤية علوي الجزار بجوار رئيس نادي ريال مدريد وهو يدخن السيجار فقرر التحفظ على أموال الرجل؟!

وفي رواية أخرى أن الرجل تردد اسمه مرشحاً لتولي حقيبة وزارة الاتصالات، في حكومة هشام قنديل، إلا أنه نفى وقتها أن يكون لقاءه قنديل بغرض تكليفه بأية حقائب وزارية.

مَن هو علي فهمي طلبة؛ وكيف استطاع الرجل أن يؤسس مجموعة اقتصادية ناجحة من دون أن يعتمد على نظام أو يستفيد من كسب أو تربح غير مشروع؟

الدكتور علي فهمي طلبة يترأس مجلس إدارة مجموعة دلتا آر إس، وهو رجل أعمال، وأستاذ في كلية الهندسة بجامعة الزقازيق، وعضو مجلس إدارة معهد التخطيط القومي، وفي يناير/كانون الثاني الماضي أدرج اسم طلبة ضمن قائمة الإرهاب التي ضمت 1538 شخصا، صدر بشأنهم قرار من محكمة جنايات القاهرة!

ما أبرز استثمارات الشركات التابعة له؟ تعد سلاسل التجزئة "راديو شاك" و"موبايل شوب" و"كومبيو مي" و"كومبيو مصر"، الاستثمار الأكبر لمجموعة "دلتا آر إس"، التي تندرج تحت إدارتها شركة كمبيو مصر لتكنولوجيا المعلومات، ودلتا للاتصالات، ودلتا لإدارة العقارات والأصول، ودلتا كول سنتر، ودلتا سوفت وير، وشركة دلتا آر إس للتجارة.

في عام 1980 أسس طلبة شركه "دلتا للبرمجيات وحلول الأعمال"، لكن مجموعته بدأت في الانتشار بالسوق المصرية في منتصف 1998 منذ تأسيس راديو شاك، واستطاعت الشركة جذب شركات مثل سامسونغ وهواوي وإل جي وانفنكس، للتعاون عبر أفرع البيع والمنافذ المختلفة التابعة لراديو شاك وموبايل شوب وكمبيوتر شوب، وكومبيومي التي استحوذت عليها في 2012، وتقدر منافذ "موبايل شوب" بنحو 80 فرعا موزعة على محافظات الجمهورية، فيما بلغ عدد محال سلسلة منافذ "راديو شاك" حوالي 32 فرعا على مستوى المحافظات.

وشركة دلتا آر إس للتجارة المالكة لراديو شاك، هي شركة مانحة لنظام الفرينشايز لمحلات راديو شاك، إلى جانب امتلاكها 10 أفرع لها، بينما تملك بالكامل محلات موبايل شوب، وسمارت هوم، وكومبيو مي بالكامل.

وبحسب مصدر مسؤول في الجمعية المصرية للفرينشايز، فإن فرينشايز "راديو شاك" يعد من أكبر العلامات التجارية الممنوحة، وقال المصدر إن الشركات الحاصلة على الفرينشايز مرتبطة بالشركة الأصلية التي تقوم باستيراد المنتجات والأجهزة التي تبيعها، وقال المصدر -الذي فضل عدم ذكر اسمه- إن التحفظ على أموال الشركة سيكون له تداعيات سلبية جدا على كل من حصل على علامة الفرينشايز.

وقال علي طلبة، رئيس مجلس إدارة راديو شاك في تصريح مقتضب لمصراوي، "من المؤكد أن التحفظ على أموال الشركة سيؤثر على نشاطها داخل الدول التي تعمل بها، وليس في مصر فقط، حيث إنه يملك من خلال الشركة حقوق الفرينشايز لمنطقة الشرق الأوسط".

كم تبلغ حصة الشركة في سوق الاتصالات والإلكترونيات وأبرز المتعاملين معها؟ يقول خبير الاتصالات هشام عبد الغفار، إن مجموعة شركات علي فهمي طلبة وإخوته، تسيطر على حوالي 80% من تجارة التجزئة المنتظمة في مجال الاتصالات والإلكترونيات والحاسبات.

كما يشمل قرار التحفظ شركة دلتا للاتصالات، ضمن المجموعة وهي الموزع الأكبر والأهم لكروت وخطوط الاتصالات لشركة فودافون وأجهزة سامسونغ وإل جي، وتعمل مجموعة شركات دلتا آر إس، مع عدد كبير من العملاء الحكوميين وغير الحكوميين، وتوضح شركة دلتا سوفت وير، وهي إحدى الشركات المملوكة للمجموعة، أنها تعمل في السوق المصري منذ 34 عاما، وأن أبرز عملائها وزارات التخطيط والطيران المدني والهيئة العامة للأنفاق والشركة المصرية للمطارات وهيئة الطرق والكباري والبورصة المصرية.

بين سيجار علوي الجزار وصورة علي فهمي مع مرسي؛ ما زلنا نبحث عن الإجابة، هل قرارت التحفظ هي مجرد قرارت انتقامية وعشوائية وليست لها أي جدوي اقتصادية أو سياسية؟ هل ما زال الاندهاش مسيطراً على عقول الاقتصاديين ورجال الأعمال لماذا يتم التحفظ من الأساس؟ وما هي المعايير؟ هل القرارت بالفعل لأجل إفساح المجال والسوق أمام لاعبين جدد يتبعون للنظام؟!

وما زال التساؤل حائرا كيف تُؤمم الأموال في عصور ما بعد الانقلابات؟

المساهمون