هل تؤسس الجزائر لجيل لا يقدر الفن

هل تؤسس الجزائر لجيل لا يقدر الفن

13 سبتمبر 2017
نصب تذكاري، الجزائر العاصمة (Getty)
+ الخط -
قبل عشرين سنة من الآن، كانت حصص الموسيقى والرسم والرياضة البدنية من الحصص الرسمية في مرحلتي التعليم الابتدائي والمتوسّط في الجزائر، حيث يتلقى التلاميذ الذين تتراوح أعمارهم ما بين 6 سنوات و15 سنة دروسًا موسيقية يتعلّمون فيها النوتات الموسيقية، وتأليف الألحان ومكونات الآلات وكيفية العزف عليها.

وفي الرسم، يتعلّم الأطفال الألوان الأساسية ودلالاتها وأنواع الأقلام والمواد المستخدمة في اللوحات الفنية. وزيادة على أن هذه الحصص الفنية قد ساهمت في اكتشاف مواهب حقيقية من التلاميذ، فإنّها شكّلت ثقافة معرفية لدى جيل كامل من الشباب القادرين على قراءة وكتابة مقاطع موسيقية وفهم طريقة مزج الألوان في اللوحات الزيتية ورمزيتها.


لا مجال لتعلّم الفنون
يُعتبر الجيل الحالي من أطفال الجزائر أقل حظاً في ما يخصّ تعلّم ودراسة الفن في المراحل التعليمية الأولى، بما في ذلك الرياضة التي تُعتبر من الفنون الجسدية، حيث ألغت أغلب المدارس الابتدائية حصة الرياضة البدنية وتعويضها بحصّة استدراك لمادة الرياضيات التي يجد التلاميذ صعوبة في استيعابها. هنا تقول أمينة، معلمة في مدرسة ابتدائية: "المعلّمون أصبحوا يرفضون تقديم حصة الرياضة البدنية للأطفال، ويطالبون الوزارة بإسنادها لأساتذة مختصين، رغم أن المفتشين يعاقبون على عدم التقيّد ببرنامج الحصص المسطّرة".

ووصل الأمر ببعض المعلمين إلى تجاوز الدروس التي تتناول مواضيع الفنون، حيث طرح مجموعة من الأساتذة قبل أربعة أشهر عبر صفحة فيسبوكية خاصّة بعمال التربية نقاشًا مفتوحًا حول كيفية التعامل مع محور الفنون المبرمج في كتابة القراءة للسنة الرابعة ابتدائي. وهو النقاش الذي أثار جدلًا كبيرًا بشأن مجموعة من المعلّمين الذين قرّروا عدم تقديم درس بعنوان "العود سلطان الآلات"، وتجاوز النص الذي يروي قصّة طفل يذهب رفقة والده إلى حفل موسيقي أندلسي، ويستفسر عن الآلات الموسيقية فيبدأ والده بوصفها وتعريفها له.

ويبرّر بعض المعلمين الذين قرّروا عدم تقديم الدرس للتلاميذ الذين يبلغ متوسط أعمارهم 10 سنوات بأنه غير لائق ولا فائدة من تعلّم الموسيقى متسائلين: "لماذا لا نعلمه الذهاب إلى المسجد بدل الذهاب إلى حفلة موسيقية؟". وعن هذا تتحدّث المعلمة إيمان في حديث إلى موقع "جيل": "أستغرب جدًا من هذا التفكير الدخيل، منذ 25 سنة وأنا في قطاع التعليم ولم أشهد جدلًا كهذا، حتى درس (رياضة العدو) الذي يتناول وصف بطل رياضي أصبحوا يتجادلون حوله".

الفنون ليست للجميع
بعد اجتياز مرحلة التعليم الابتدائي والانتقال إلى مرحلة المتوسّط لن يتمكّن جميع الأطفال الناجحين الذين يبلغ متوسط أعمارهم 12 سنة من تعلم الموسيقى والرسم، ولكن أغلبهم سيمارسون الرياضة البدنية. وتتوقّف دراسة الأطفال للفنون في مرحلة المتوسّط على المدرسة التي يسجّلون بها، لأن أغلب المدارس على المستوى الوطني استغنت عن حصة الموسيقى وحصة الرسم أيضًا، وهناك من استبدلتها بحصّة للإعلام الآلي رغم أن هذه المدارس تخضع للمناهج التعليمية نفسها المعتمدة من قبل وزارة التربية والتعليم الذي يدرج مادة الموسيقى ومادة الرسم كمواد أساسية يجتاز التلميذ امتحانات بها في شهادة التعليم المتوسط.

والغريب في الأمر ألا يحظى أطفال المدينة نفسها بفرص متساوية في تعلّم الفنون، حيث يدرس تلاميذ المدرسة المتوسطة محمد صبوع، بمدينة سكيكدة شرق الجزائر، الموسيقى لمدّة ثلاث سنوات، بينما لا يدرس تلاميذ باقي المدارس هذه المواد ولا يجتازون بها امتحانات. تتحدّث الطالبة ليندة في حديث إلى "جيل" عن تجربة دراستها بهذه المتوسطة: "أعتبر نفسي محظوظة لأني درست الموسيقى لمدة 3 سنوات، والآن أستطيع قراءة الألحان وكتابتها، وأجد ذلك ممتعا، في المقابل زملائي بالثانوية ممن درسوا في مدارس أخرى يثيرهم الفضول بشأن ذلك ويطلبون مني تعليمهم قراءة النوتات".

ويرجع سبب إلغاء المؤسّسات التعليمية لهذه الحصص لنقص الأساتذة المختصين بتدريس وتعليم الفنون للتلاميذ، وخاصّة الموسيقى والرسم، إلى جانب غياب الأدوات والأجهزة الضرورية لذلك. وكانت وزيرة التربية نورية بن غبريط، قد كشفت في وقت سابق أن قطاع التربية يسجل عجزًا في أساتذة الموسيقى والرسم بـ 521 منصبا شاغرا، ما جعلها تدرس إمكانية توظيف فنانين لتعليم هذه المواد بدون شهادة ليسانس، لتغطية النقص في عدد خريجي المعهد الوطني للرسم والموسيقى.

مستقبل فني غامض
يرجع النقص في أعداد حاملي شهادة جامعية في مجال الفنون بالجزائر إلى الغموض الذي يكتنفه مستقبل الفنانين الذين يختارون ممارسة الفن كهواية وليس كتخصّص علمي، سواءً تعلّق الأمر بالموسيقى، الرسم، المسرح أو الكاريكاتير. ويفسّر عزوف حاملي شهادة البكالوريا عن التوجّه نحو دراسة الفنون، والالتحاق بالمعاهد الوطنية المختصّة بها بطبيعة سوق العمل الذي لا يمنح هؤلاء خيارات توظيف كثيرة، وصعوبة الحصول على عمل مستقرّ.

من جهته، يقول سمير بوحالة خريج المعهد الوطني للفنون الجميلة تخصص رسم، لموقع "جيل": "يمكننا العمل كأستاذ في المدارس الجهوية المنتشرة في الجزائر أو في مدارس المتوسط والثانوية، ولكن الحصول على هذه الوظائف ليس سهلًا". ويعاني رسامو الكاريكاتير من أجل الحصول على مساحة صغيرة في جريدة ورقية أو إلكترونية بأسعار جد زهيدة. هنا يقول الفنان عصام الرسام في حديث إلى "جيل": "من يريد الحصول على شهادة يذهب للدراسة في معهد، لكن الفن لا يجعلك تأكل خبزًا، شخصيًا درست في معهد لأسابيع ثم تركته".

ومن الصعب أن يفرض الفنان وجوده ويحقّق شهرة تضمن له دخلًا في مجتمع لا يتذوّق الفنون ولا يقدرها، وفي وطن ما زال الفنان يناضل من أجل الحصول على "بطاقة فنان" تضمن لهم الاشتراك في الضمان الاجتماعي، حيث بدأت وزارة الثقافة منذ سنتين فقط في تسليم "بطاقة فنان" التي انتظرها الفنانون 50 سنة كاملة، والتي تضمن لهم تقاعدًا وفرصًا في السفر للمشاركة في المهرجانات والتظاهرات الفنية.

ويعتبر الحصول على هذا البطاقة أمرًا سهلًا؛ إذ يتطلب تقديم ملف ونماذج من أعمال الفنان. ويقول عصام الرسام، فنان من مدينة بسكرة (محافظة في الجنوب الشرقي) في حديث إلى "جيل": "الإجراءات سهلة يكفي أن تقدّم ملفا وتنتظر لكن التسليم يستغرق أشهرا، شخصيًا حصلت على البطاقة بعد أكثر من 6 أشهر كاملة".

من جهته يقول الفنان سمير بوحالة في حديث إلى "جيل": "يتمّ ايداع الملفات في مديريات الثقافة بالولايات، ثم ترسل إلى العاصمة، لكن تجهيز البطاقات يستغرق وقتا طويلًا، أعرف زملاء انتظروا سنتين كاملتين للحصول عليها". ويضيف: "البطاقة غير كافية لضمان حقوق هذا الفنان، وهي تساهم في انتشار الفنانين المزيّفين الذين يسعون للحصول عليها بمختلف الطرق من أجل الاستفادة من امتيازاتها، وهذا ما جعل الكثير من الفنانين الموهوبين يرفضون التقدّم بطلب للحصول عليها".

هذا الواقع يثير التساؤل حول مستقبل الفنون في الجزائر، في ظل إهمال التربية الفنية للأطفال منذ المراحل التعليمية الأولى ووأد مواهبهم في المهد.

المساهمون