الزواج من الأجنبيات: العبور الثقافي للجسد العربي

الزواج من الأجنبيات: العبور الثقافي للجسد العربي

10 اغسطس 2017
(ديفيد كليفلاند)
+ الخط -

في أكثر الأحوال، سيكون من الصعوبة مقاربة قضية الزواج عمومًا من موقع محايد، فتقاطعات الخصوصية الفردية مع اشتراطات السياق الاجتماعي والثقافي النسبية لا تفسح مجالًا معتبرًا لرؤيةٍ تنشد مقاربة عمومية يمكنُ الاطمئنان لها كثيرًا. مع ذلك يبدو الزواج موضوعًا تسهل ملاحظته شيئًا ما. خصوصًا إذا لم نقتصره على البعد الفردي الضيّق فقط، وأخذناه على اعتبار أنه موضوع اجتماعيّ يتجسّد وفقًا لمحدداتٍ معينة. ينطبق ذلك على الزواج بشتّى أنواعه ضمن سياقٍ اجتماعي واقتصادي وثقافي وربّما أيضًا سياسي.

على ذلك الأساس يمكن اعتبار الزواج من الأجنبيات، في حالة الشباب العربي على الأقل، مثالًا جيّدًا حين يتعلقّ الأمر بضرورة التسييق تجنبًا لأي أحكامٍ وتقييماتٍ إطلاقية من أيّ نوع. لا سيما أنّ احتضانه لعدّة معانٍ شائكة تتراوح بين التفضيلات الشخصية وإكراهات الظروف العامة يجعله بالضرورة محتاجًا لنظرةٍ أكثر نسبيّة في ترفعها عن التحسين أو التقبيح المجانين. وهي نظرةٌ ستبدو لنا أساسية في ظل غيّاب المعطيات الميدانية الصالحة لأن تكون نموذجًا قياسيًا عامًا.


في نقد الرائج حول الزواج من الأجنبيات
لعل من الضروري نقد التصوّرات الرائجة حول الزواج من الأجنبيات لا للدفاع عنه في مقابل غيره من طرفنا، كما ينبغي التنبيه، ولكن لأمكنة رؤيته شفافًا. وهذه التصوّرات هي متعدّدة وتأخذ في أغلب الأحيان طابعًا غرائبيًا يلبس في حالة الشباب العرب مثلًا لبوس الثقافوية الضحلة في نظرتها للموضوع نظرةً تُفسره على أساس أنه يتم سعيًا لتعويض حرمانٍ عاطفي وجنسيّ متأصّل في ثقافة الأزواج ذوي الخلفية العربية الإسلامية.

وغالبًا ما يأتي هذا التفسير، الرائج حاليًا بكثرة، في حال كانت الزوجة الأجنبية أوروبيّة أو غربية. إذ إنه وبدلًا من إعطاء الاعتبار للخيارات الفردية ضمن سياقها المعلوم يُلجأ إلى تفسيراتٍ أقلّ ما توصف به أنها مجرّدة وبلا أيّ أساس واقعي.

علاوةً أنّ تلك النظرة التفسيرية تقومُ بحصرٍ مُخلّ للزواج في المسألة الجنسية استنادًا لأسسٍ ثقافية واجتماعية ما، فإنها أيضًا لا تستحضر أيّ بعدٍ آخر للعلاقة الزوجية. وهكذا بنوعٍ من الدوغمائية، يتمّ تجريد علاقة الأزواج الخصوصية من أيّ معنى ذاتي خصوصي حميمي، لتبدو تعبيرًا خارجيًا عن صراعٍ أو تصالحٍ ثقافي قطبيّ لا يأخذ في الغالب حيّزًا تأثيريًا معتبرًا في حياة الزوجين المعنيين. ما يفيد، بالتالي، أن معنى زواجهما يُسلب على نحوٍ استغلالي ليؤدّي أدواراً معينة لا تمتّ لهما بصلة.

هذه النظرة الثقافوية الضحلة، التي تُسطّح البعد الثقافي ولا تتعامل معه بذكاء، تمثل اليوم أحد التصوّرات الرائجة حول الزواج من الأجنبيات، خصوصًا منهنّ الأوروبيّات. وهي على ذكر الأخيرات تستدعي، بشكلٍ سلبيّ، التاريخ الكولونياليّ لتؤكّد من خلال إسقاطه على مدّ نفسها ببعض المصداقية. غير أنها بذلك المدّ الإسقاطي لا تشكّل فارقًا نقديًا مهمًا أو مفيدًا، لأنها لا تستعين بذلك التاريخ الكولونيالي المُثقل بالقمع الوحشيّ إلاّ لترسّخ تعامًلا فوقيًا واحتقاريًا إزاء القادمين من الخلفيات المُستعمَرة لطالما دأب عليه الاستعمار. وقد أصبح الحال إثر ذلك أنّ: الأزواج أولئك، القادمين من خلفياتٍ مُستعمَرة سابقًا، لا يتزوّجون من الأوروبيات الشقراوات إلاّ لينتقموا من حضارة قومهنّ عبر "فحولتهم" الجنسية، والتي يُصنّفون في إطارها وحوشًا نهمة وهمجية تأتي هذه المرة لتنتقم/ تُعوّض في ساحاتٍ معارك أقلّ خشونة.

لا يقتصر هذا التفسير الثقافوي المُغلّف بطابعٍ كولونيالي على هذا فقط. ففي جانبٍ منه أيضًا نجد تصوّرًا آخرَ لا يقلّ فوقية في ترويجه للتالي: أنه عندما يتزوّجُ شخصٌ ما من خلفيةٍ مُستعمَرة شخصًا أوروبيًا وغربيًا، أي باختصار ما يسمّيه فرانز فانون في كتابه "جلد أسود" بـ"الزواج من ثقافةٍ بيضاء"، فسيضمنُ له ذلك عناق الحضارة الأوروبية الراقية. تفسير تبسيطي كهذا يبدو متهافتًا بافتراضه عقدةَ نقصٍ دائمة لدى المتزوّج غير الأوروبي. وتهافته لا يبدو من جهة تعميميته التي تضع ذوي الخلفيات القادمين من العالم العربي والإسلامي الإفريقي في إطارٍ غرائبيّ ومُضلّل وبدائيّ، وإنما أيضًا من جهة أسسه المعتمدة تفسيريًا ومعرفيًا. وهي أسسٌ سبق لفانون في كتابه المذكور آنفًا أن فكّك ونقد خلفيتها السيكولوجية القائمة على تعالٍ عنصريّ استعماري مقيت.


نقاوة عرقية
كلُ جسدٍ تقريبًا، عبر مراحل تنشئة اجتماعية متعدّدة، يحملُ توقيعًا ثقافيًا بارزًا يتجلّى في سماته وأنماط حركته وآليات تكيّفه وتأديته للمهّام المنوطة به. والزواج من الأجنبيات، خصوصًا في حالة الشباب العربيّ، يبدو ساحة لا بأس بها لعرض تلك التوقيعات الثقافية أو على الأصحّ لبروزها. وبما أن الأجساد هي محور العلاقة الزوجية فهي تعكسُ وضوحًا مهمًا فيما يخصّ حالات التفاهم والاختلاف والتعايش وغيرها من حالاتٍ معبرة على أكثر من منحى، خصوصًا ذلك المتعلّق بمؤشرات التأكيد على العبور من عدمه.

والعبور المعني هنا هو العبور الثقافي للأجساد، أي القدرة على التلاقي خارج الخصوصية الثقافية الأصلية، في بوتقةٍ غالبًا ما تتسم بالهجنة الثقافية ممثلة في الدمج بين الممارسات المختلفة ثقافيًا أو التخلّي عنها. هذا العبور الثقافي يبدو متصالحًا مع رؤيةٍ حديثة تمجدّ الكوننة القائمة على التبادل السريع وتتجنّب المكوث ضمن أي محددات هوياتية ثقافية أصلية. ومع ما يترتّب على تلك الكوننة من تغيّر في أنماط ونطاقات العلاقات الاجتماعية، خاصّة منها الزواج، فهي تسقط أحيانًا كثيرة في فخّ المعيارية النموذجية عندما تجعلُ نمطًا ثقافيًا يلتحق، بطريقةِ قمعية، بنمطٍ آخرَ يُرى أنه أكثر حداثة ورقيًا، في إسقاطٍ واضح على الغرب الأوروبي أساسًا. وهذا ما يعيدنا لطرح عامل المركزية الكولونيالية مجددًا، من أجل دراسة تأثيراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على أنماطٍ زواجٍ من نوع هذا الذي نحن بصدده الآن، قصد نقده وتجاوزه.

قضيّة عبور الجسد ثقافيًا تطرح استشكالاتٍ أخرى طالما نوقشت عند طرح موضوع الزواج من الأجنبيات، خصوصًا في المجال العربي، الذي يتمّ في عددٍ من نقاطه استدعاءُ هواجس النقاوة العرقية والجينالوجية بشكلٍ حسّاس، الأمرُ الذي يعيدُ طرح تصوّر يبدو الآن مُستهلكًا وهو أن نمط العلاقات، السائد عربيًا ومحليًا، يقوم على القرابة القبلية التي تقوم عليها الذات الجماعية، في حين أن نمط العلاقات، السائد أوروبيًا وغربيًا، قائمٌ على نقيض ذلك تمامًا بفعل تجذّر القيم الحداثية القائمة على الفردانية وغيرها في تربةٍ تفكّكت فيها الروابط التقليدية كليًا.


خارج أسوار الوصاية
أصبحنا مؤخرًا، ومن وقتٍ لآخر، نشاهد أخبارًا تبدو ملفتة. تنحصرُ مهمّتها على إعلاناتٍ موجهة، خصوصًا أنها تستهدف أساسًا جمهورًا لا يتجاوز في الغالب الشباب في عالمنا العربي الإسلامي، وذلك عبر القول إن النساء الروسيات، مثلًا، مستعدّات، مع مساعداتٍ رسمية من طرف الدولة، للزواج بدون تعقيداتٍ بعد أن مللن من العزوبية التي يشهدنها في مجتمعهن. لذا، فما على الراغب في الزواج منهن، إلاّ أن يتقدّم للتسجيل في استمارةِ ما أو السفر إلى روسيا.

هذا النمط من الأخبار والإعلانات تحديدًا، بات اليوم منتشرًا بكثرة وبصيغ متعدّدة على وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات الإلكترونية، وهناك جهاتٌ تنشطُ على نشره. وهو، على الرغم من عدم وضوح مصداقيته بشكلٍ كبير، إلاّ أنه يشكل تأثيرًا كبيرًا في الأوساط الشبابية، التي طالما شكّلت هذه الأنماط الإخبارية والدعائية موضع إغراءٍ جمّ عندها، لا من جهة أنها تعدُ فقط بمستقبلٍ يبدو ورديًا وكريمًا لمن هم مثلهم في ظروفٍ صعبة اجتماعيًا واقتصاديًا، ولكن أيضًا من جهة أنها تذكر بأفعالٍ سبق لعدة أجيال ماضية أن حققّتها بنجاج: السفر إلى الدول الأوروبية والزواج من بناتها لنيل الجنسية، ثم التمتع بحقوق المواطنة. وذلك بعد إن لم يُفسح القانون السائد هناك أمامهم، للتمتّع بالحقوق المبدئية إنسانيًا، أيّ فرصةٍ أخرى.

المساهمون