إريك رومير: "طريقة إخراجي عشوائية، رهينة الممكن"

إريك رومير: "طريقة إخراجي عشوائية، رهينة الممكن"

21 يوليو 2017
(إيريك رومر، تصوير: محمد الوناس)
+ الخط -
عقدت مجلّة )ليزينروك - Lesinrocks)، وهي أبرز مجلة سينمائية في فرنسا، هذا الحوار مع المُخرِج إريك رومير في 5 يونيو/ حزيران 1996، عقب صدور فيلمه (قصّة الصيف Conte d'été)، وهو أحد الحوارات المكثّفة التي تتطلّب دراية كافية بأفلام هذه الفترة وبأبرز أحداثها ومُخرجيها.


مجلّة ليزينروك: متى بدأ بالتحديد اهتمامك بالسينما عن كثب؟
إريك رومير: عندما كنتُ طالبًا في باريس. تمكّنتُ من التردّد باستمرار على سينما "أورسولين" من أقدم سينمات باريس، وتهتم بعَرض الأفلام التجريبية -التي كانت تغيّر برنامج أفلامها يوميًا- وهكذا تمكّنتُ من اكتشاف قطاع جديد من السينما بالنسبة لي، خاصةً الأفلام القديمة الناطقة التي تعود للثلاثينيات. تأثّرتُ كثيرًا بفيلم (أوبرا القروش الأربعة - L'Opéra de quat'sous) لـ (غيورغ باب - Pabst)، ربّما بسبب طابعه المسرحيّ. كما ترى، لم أكُن بَعد مُخلصًا كل الإخلاص للسينما، ثم حدث أن شاهدت فيلمًا كان صادرًا للتوّ وأعجبني للغاية: (رصيف الضباب - Quai des brumes) للمُخرِج (مارسيل كارنيه – Carné). لا أزال وفيًا لهذا الفيلم، وأواصل دفاعي عنه ضدّ أي انتقادات كانت توجّه له من قَبل، أو تُوَجّه له الآن.


مجلّة ليزينروك: من هو المُخرِج الذي تضعه في مكانةِ فوق الجميع؟
إريك رومير: المخرج رنوار. ولكني أرى حاليًا أن مارسيل كارنيه وَرينيه كلير مبخوس حقهما. لقد عرفا طريق المجد في البداية، ووُضِعا في صَف أعظم المُخرجين الفرنسيين. في المقابل، اقتصر نجاح رنوار على بعض أوساط جهابذة وخبراء السينما، في حين أنه الأعظم. عاش رينيه كلير وَكارنيه بعد ذلك فترة يشوبها الانكسار، كما لو أنهما يدفعان عواقب شهرتهما.

صنع رينيه كلير بعض الأفلام الرئيسة في تاريخ السينما الفرنسية: (تحت سقوف باريس -Sous les toits de Paris)، وَ (يوم الباستيل - 14 juillet)، وَ (الحرية لنا -À nous la liberté). هناك اهتمام قليل بـ "الحريّة لنا"، رغم أنه كان مصدر إلهام لـ شابلن في فيلمه (الأزمنة الحديثة - Les Temps modernes).

أما فيلم "رصيف الضباب" فيُمكن القول إنه الفيلم الذي أدخلني في علاقة تواصل حقيقيّة مع السينما. وبعد ذلك، في أثناء الحرب العالمية الثانية، شاهدتُ الأفلام التي يجب أن تشاهدها في ذلك الوقت، مثل (العود الأبدي - L'Eternel retour 1943).

ولكن صدمتي الكُبرى كانت بعد الحرب؛ في ذلك الوقت اكتشفتُ السينما الصامتة في (السينماتك - Cinémathèque). فأصبحتُ أترددُ على هذا المكان بانتظام: شاهدتُ العديد من الأفلام الصامتة، ومن هنا بدأتُ تجربةً جديدة. أعتقدُ أن ما ينقص مُخرجي اليوم هو التردُد المُستمرّ على الأفلام الصامتة.

وبالرغم من أن كثيرين لا يتذكّرون من أفلامي سوى الحوار، فأنا أعتبر نفسي مُخرجًا "صامتًا"؛ وبوسعي إثبات ذلك. فالسينما الصامتة، من جانب، هي سينما حوارية، لأنها تحتوي على كثير من العناوين واللافتات الكتابية الفاصلة (Intertitles). يضطلع الكلام فيها بدورِ مهم: لا نسمعه بالتأكيد لكننا نقرأه. ثم من جانب آخر، أثناء عملية المونتاج، يحدث أن أشاهد أفلامي دون صوتِ، وأعتقدُ أنها تنجح في الصمود أمام هذا الاختبار. ما يهم فعلًا ليس مُتابعة القصّة، بل الاهتمام بأفعال الشخصيات. وفي أفلامي، ثمّة مُتعة في النظر إلى شخوصي، حتى بلا كلام: قد يكفي بعض اللافتات الكتابية الفاصلة كي تفهم كل شيء.


مجلّة ليزينروك: وكيف تعايشت مع اجتياح السينما الأميركية بعد الحرب؟
إريك رومير: كنتُ مُعلّمًا في ذلك الوقت في إحدى المؤسّسات؛ أحد طُلّابي، وكان واسع الحيلة، اعتاد جَمع نُسخ الأفلام التي كان من المقرّر التخلّص منها لأنها لم تعُد تُباع. وبالتالي، فإن نادي السينما التابع للمؤسسّة التي كنتُ أعمل بها كان يعرض عددًا ضخمًا من الأفلام الأميركية التي تعود للثلاثينيات، إلى جانب الأفلام الكوميدية، وأفلام (ليو مكاري -McCarey) وغيرها.

كنتُ أنا مُقدّم هذا النادي، وكان هذا أوّل اتصال لي مع النقد السينمائي. كنا نطرح أسئلة، والمُشاهِد الذي يجيب عنها بصورةِ صحيحة يفوز بتذكرة دخول مجانيّة. أتذكّر هذا الفتى اليافع الذي كان يجيب على كل الأسئلة، لا يُمكن التغلّب عليه، آتي من نورماندي: كان جاك (ريفيت - Rivette).

في ذلك الوقت، عرفتُ غودار أيضًا، ولكنه لم يكن من النوع الذي يُشارِك كثيرًا، كما عرفتُ كلود شابرول. كتب ريفيت مقالة لافتة في مجلّة نادي السينما، دافع فيها عن آرائه التي لا يزال يؤمن بها حتى اليوم. لقد هاجم بشكل خاص سينما المونتاج بشكل أكثر عُنفًا من آندريه (بازان - Bazin). ومنذ ذلك الوقت ظلّ وفيًا لسينما "اللقطة الواسعة".

في نادي السينما هذا تعرّفتُ على المجموعة المُستقبلية لـ (دفاتر السينما - Cahiers du Cinéma)، باستثناء (تروفو - Truffaut)، الذي تعرّفتُ عليه في "مهرجان الفيلم الملعون" في مدينة بياريتز، سنة 1949. هذا المهرجان نظّمته (مجلّة السينما -Revue du cinéma) (لم تعد تُصدِر أعدادًا)، أي آندريه بازان، وَجاك دونيول (فالكروز – Valcroze)، وَ(آلكسندر آستروك - Astruc)، وبفضل أوّل مقالاتي البارزة المُعَنوَنة "السينما، فن المكان"، تمت دعوتي مع المُشتغلين بهذه المهنة، وكنتُ أحد أعضاء لجنة المهرجان. وفي 1951، كان (ليونارد كيغل - Leonard Keigel)، الذي يملك دار سينما، هو الذي تكفّل بتمويل إنشاء "دفاتر السينما".


مجلّة ليزينروك: وهل تأثّر النقد بتيارات الفكر السائدة بعد الحرب، مثل الفينومينولوجيا، والشكلانيين الروس، وغيرهما؟
إريك رومير: في هذه الفترة، كنا نمتنع عن مُمارسة الفلسفة، كنا نحاول أن ننأى بأنفسنا عن أكاديميي الجامعات. في "الدفاتر"، كتب بازان، باسم مستعار، مقالة شديدة اللهجة ضدّ الفينومينولوجيا. ولكن في الوقت ذاته، عَنوَن مقالته الأولى "أنطولوجيا الصورة السينمائية". إنه على بيّنة إذن من أن التيار الفكري السائد في هذه السنوات كان الفينومينولوجيا. درسنا كلنا الفلسفة بطرق مختلفة. فيما يخصّني، تأثّرتُ بالفينومينولوجيا، وَهايدغر، وَ(آلان - Alain ) وإمي- آوغوست شارتييه مجتمعين. كما تأثّرنا بمُفكّرين فرنسيّين كبار معاصرين سارتر وَ(مالرو- Malraux)، الذي كان هيغيليًا أكثر منه وجوديًا. كُنا إذن في تقليد فكري يمكننا أن نسمّيه (فلسفة الجواهر- Philosophie des essences)، يمتد من أفلاطون حتى هايدغر، مرورًا بـ هيغل. حتى أن هناك من لم يكُن من ضمن مجموعتنا الأصلية، مثل تروفو، تأثّروا بهذا التيّار.

عندما يتحدّث تروفو عن (سينما المؤلّف Politique des auteurs)، فنحن هنا إزاء موقف ترنسندنتالي، مثالي؛ إنه ليس مفهومًا علميًا، بل مفهوم فلسفي، أُسِّسَ على حُكم قبلي، ورغم هذا التأثير، فإن جيلنا كان لديه موقف مختلف جذريًا، مُتأثّر بالعلوم الإنسانية، والتحليل النفسي، واللغويات. خلاصة القول إنه كان يوجد عصران بارزان، تيّاران فكريان بارزان في "الدفاتر" : انتقلت المجلّة من فلسفة الجواهر إلى تيار أكثر علميةً، انتقلت من الأنطولوجيا إلى العلوم التجريبية، والسيميولوجيا، والتحليل النفسي.


مجلّة ليزينروك: على عكس النقد السائد القائم على معايير سياسية واجتماعية، أنتم تُدرَجون في إطار جماليّ يقوم على تقاليد فلسفيّة مختلفة؛ فهل تبلورت أفضل الأقلام في "الدفاتر" بسبب ذلك؟
إريك رومير: قبل أي شيء، هناك سبب ماديّ بحت: "الدفاتر" كانت المجلّة المهنيّة الوحيدة بحق. أمّا البقية فكانت بالأحرى صحفا رديئة المستوى، تقرأ فيها كلامًا يفتقر إلى المهنيّة. كان لدى "الدفاتر" ورق جيد، صور جيدة. وإلى جانب ذلك، كانت هناك أسماء بارزة؛ بازان كان معروفًا خارج فرنسا. كل ذلك جعلنا نرغب في الكتابة لـ"الدفاتر"، لم تكن هذه المجلة للمبتدئين. غير أن الأمر لم يكن بهذه البساطة، لأن عدد النُسخ المطبوعة لم يكن كبيرًا. لم يكن توهّجنا متناسبًا على الإطلاق مع عدد النُسخ المطبوعة ومع مبيعاتنا. ربّما كانت "الدفاتر" فقيرة ماديًّا، أو ربما كُنّا نمرّر الأعداد من يدٍ لأخرى.


مجلّة ليزينروك: كانت تعليقاتك النقديّة تركّز على رنوار، وَ(هوكس - Hawks)، وَهيتشكوك، وَروسيليني؛ من بين هؤلاء، نلاحظ أن هيتشكوك دخيل.
إريك رومير: سادت عدّة اتجاهات داخل "الدفاتر" نفسها. كان هناك من يُدافع بالأحرى عن السينما السياسية مثل دونيول- فالكروز، وَ(بيير كاست Kast)، كان بازان مسيحيًا يساريًّا، يميل نحو (الروح - Esprit). أمّا أنا، وَريفيت، وَغودار، وَدوشيه، وَشابرول فقد اتُهمنا عادةً بأننا ننتمي إلى اليمين لأننا لم نكن نرغب في الحديث عن السياسة: لقد دافعنا عن أفلام اعتبرها الآخرون رجعيّة. كانت الشكلانية والجماليّة تُعَدّ قيمًا برجوازية. ومع ذلك، فقد يحدث أحيانًا أن تقترب أفكارنا من أفكار بازان، لقد كان له تأثير كبير، كان مُسَيطرًا ويوفّق بين الأمور.

كان بازان عاشقًا لـ رنوار، وَروسيليني؛ كُنا على وفاق معه فيما يخصّ هذه النقطة. غير أننا اختلفنا معه بشان السينما الأميركية. كان يحب ما أطلق عليه "العُمق في السطحية" للسينما الأميركية، لأفلام (الوسترن - western)؛ كان يرى أن هيتشكوك أو هوكس مخرجان سطحيّان، ولم يخطر على باله أنهما كانا عميقين مثل رنوار أو روسيليني. ولكننا كنا نرى أن هذين المخرجين عميقان، بشكل مباشر، مثل رنوار. وبالتالي، وَصَفَنا بازان بأننا هيتشكوكيون هوكسيون.


مجلّة ليزينروك: ولكن أليس هيتشكوك "ملك التلاعب" هو النقيض لأنطولوجيا هوكس أو روسيليني؟
إريك رومير: نرى أن الرابط بين هيتشكوك وَهوكس وَروسيليني هو "الإخراج"، الخصوصية السينماتوغرافية. لا يتعلق الأمر، بالنسبة لي، بخصوصية الوسائل، بل الغايات. أيّ اكتشاف جمال سينماتوغرافي خاصّ، لا يُقارَن. فجمال فيلم لـ هيتشكوك أو لـ هوكس لا يمتّ بصلة لجمال الفنون الأخرى؛ فبين رواية بوليسية وفيلم لـ هيتشكوك، هناك اختلاف كذاك الذي بين النوتة الموسيقيّة ولوحة فنيّة.

لكن كثيرا من الناس عندما يُشاهدون فيلمًا لـ هيتشكوك أو لـ هوكس، ينظرون إليه ويفكّرون فيه كما لو أنهم يقرأون روايةً بوليسية. أحبُ كثيرًا روايات (رايمون تشاندلر Chandler)، لكن فيلمًا لـ هوكس ليس على الإطلاق مجرّد رواية لـ تشاندلر صوّرت سينمائيًا، إنه شيء آخر.

إن عمل تشاندلر وَعمل هوكس لا يطرحان الفكرة ذاتها بشأن العام؛ إن تجلّي الجمال الخاصّ مُختلف بين الاثنين. لأكون أكثر دقّة، ما أحببته عند كل المُخرجين هو أنهم خلقوا أشكالًا ولم يخلقوا الشكل. لم يكونوا مُخرجين شكلانيين؛ فبالنسبة لهم، الشكل لم يكن منفصلًا عن المحتوى. عند هيتشكوك، كان ثمّة تفكير مستمرّ في الإخراج وفقًا لرسم تخطيطي زماني أو مكاني: جدل الخط المستقيم والدائرة في فيلم (غرباء على القطار -Strangers on a Train)؛ البناء اللولبي في (فيرتيغو - Vertigo). هذه الرسومات التخطيطية لم تكن اعتباطية، بل كانت تتوافق مع بنية القصّة، ومع تفكير الشخصيات. وهذا هو ما يجعلني أحب هيتشكوك. ووجدتُ هذا الفكر الإخراجي وهذا الجمال السينماتوغرافي الخاصّ عند هوكس، وَ(كيتون - Keaton)، وَرنوار، وَروسيليني.

مجلّة ليزينروك: بدأت في تصوير أوّل أفلامك القصيرة في 1950، مما يجعلك أوّل مُخرجي فريق "الدفاتر". هل غيّر هذا الانتقال خلف الكاميرا من تفكيرك النقديّ؟
إريك رومير: هذه هي خصوصيّة مدرستنا، أي الموجة الجديدة: كُنا نريد أن نصنع أفلامًا حتى قبل أن نناقشها. شعرنا أننا فنانون بعض الشيء، أننا أخوة المُخرجين، لم نكتفِ بكوننا مجرّد مُشاهدين. كل أفكاري عن السينما وردت إليّ عندما كُنت مُشاهدًا، كما أن مُمارسة السينما لم تضف إليّ أيّ شيء في هذا المجال. تعلّمنا السينما عبر مشاهدتها، لا عبر الكتابة عنها. إن مشاهدة الأفلام الصامتة علّمتنا الكثير من الأمور، ولكننا لم نطبّق أية نظرية. تحرّرنا سريعًا من مُعلّمينا.


مجلّة ليزينروك: ألهذا نجد في أفلامك إشارات إلى الأدب والرسم أكثر من السينما نفسها؟
إريك رومير: أظنُ ذلك. إن طريقة إخراجي تلقائيّة للغاية، عشوائية، ورهينة الظروف، والديكور، والممثلين؛ إنها رهينة المُمكِن. كان تروفو يقول، إذا ما أسعفتني الذاكرة: "عندما آخذ لقطة ولا أدري بالضبط ماذا أفعل، أفكّر فيما قد يفعله هيتشكوك". ذلك لم يخطر قط على ذهني. عندما آخذ لقطة، أُفكّر في المكان الذي ستتموضع فيه الكاميرا بما يتناسب مع الخلفية أو مع هيئة المُمثل.


مجلّة ليزينروك: كنت أكبر سنًا من تروفو، وَغودار، وَشابرول. هل أمدّك ذلك بسُلطة أخلاقية على مجموعة "الدفاتر"؟
إريك رومير: ما أمدّني بسُلطة أخلاقية كان أنني كتبت مقالات مثل "السينما، فن المكان" في "مجلة السينما"، في حين لم يكن الآخرون قد كتبوا شيئًا يُذكَر. كتبتُ في "الدفاتر" مقالة بعنوان "زهو الرسم"؛ وفرض ريفيت نفسه بكتابة مقالة عن روسيليني، ثم أخرى عن هوكس بعنوان "عبقرية هوارد هوكس". كان يجب فرض أنفسنا بالمقالات الثقيلة والعميقة، وإثبات أن لدينا نظرية للسينما، وأننا لا نكتفي بكتابة نقد صغير من يوم لآخر. فرض تروفو نفسه بمقالة صحافية أكثر منها فلسفية: "اتجاه ما للسينما الفرنسية".


مجلّة ليزينروك: هل تعتقد بأن تروفو كانت لديه أهدافٌ إستراتيجية بهذه المقالة؟
إريك رومير: كُنّا نحب أن نشبّه أنفسنا بـالإستراتيجيين. كُنّا نقول "يجب أن نسيطر على السينما". لقد نجحنا في ذلك.


مجلّة ليزينروك: كانت لديك أنت وَغودار وَتروفو إرادة لتطوير أدوات نظريّة خاصّة بالنقد السينمائي، غير "مُستعارة" من الفلسفة أو من النقد الأدبي.
إريك رومير: نعم بالضبط. كُنّا نرتاب في نقّاد الأدب والفلاسفة. حاولتُ في وقتِ ما استبعاد كل المرجعيّات وكل طرائق التفكير التي عهدتها. حاولنا امتلاك نظرة جديدة إلى السينما؛ وهذا يفسّر لماذا لم يفهمنا الناس على الفور: لم يكن لدينا المعايير نفسها التي كانت لدى الآخرين.


مجلّة ليزينروك: في "الدفاتر"، كانت مقالاتك تُنشَر باسمك الحقيقي: موريس شرير. من أين أتى اسمك المستعار رومير؟
إريك رومير: إنه جناس (تصحيفي Anagramme)، لطالما أردتُ اسمًا مستعارًا لعدة أسباب. كنتُ آنذاك مُعلّمًا، ولم أكن أود إحداث خلط. في نهاية المطاف، فضّلتُ اسمي المستعار. زملائي الذين اتخذوا اسمًا مستعارًا، مثل غودار، لم يحتفظوا به طويلًا.


مجلّة ليزينروك: كنت رئيس تحرير "الدفاتر". كيف يمكن الوصول إلى مثل هذا المنصب؟ هل يجب خوض صراعات على السُلطة للوصول له؟
إريك رومير: بدأ دونيول يصنع أفلامًا، وكان بازان مريضًا بالفعل. كان يجب أن يحلّ أحد محلّ (لو دوكا - Lo Duca)، فوقع الاختيار عليّ. ولكن المشكلة تمثّلت في العثور على زملاء جدد، كان الأمر صعبًا للغاية. وهو أحد أسباب رحيلي. لم يكن الأمر عراكًا بين المُحافظين والتقدميين على الإطلاق. المسألة كانت أكثر تعقيدًا.

في ذلك الوقت، كان قدماء "الدفاتر" يغادرون، لأنهم لم يعودوا راغبين في الكتابة، وأنا من ضمنهم؛ كنتُ قد أخرجت للتو فيلمي (رمز الأسد - Le Signe du lion). الشباب الذين أتوا (فييشي Fieschi، كومولي Comolli، ناربوني Narboni) كانوا يكتبون مقالات اعتبرها كثيرون عصيّة على الفهم، تفتقر إلى الأسلوب الصحافي، ومُستغلَقة.

بدأ الهجوم يُشَنّ على الموجة الجديدة، كان ذلك في عامي 61 -62؛ وأراد تروفو مجلّة أكثر استعدادًا للقتال وأكثر حيوية. اتخذ الكثيرون هذا الموقف النقديّ تجاه الموجة الجديدة، ومنهم (دوشيه - Douchet)، وَكومولي، وَ(باربت شرودر - Schroeder)، إنه هذا المنحى الماكماهوني -إشارة إلى أولوية الإخراج على السيناريو-. كل هذه التيارات لم تكن تمثّل توجّهات تروفو تمامًا. لقد فتحتُ "الدفاتر" أمام هؤلاء الشباب، بيد أن هذا لم يمنعني من توجيه النقد إليهم. حتى أن ريفيت شجّعني على نشر مقالة لـ (مورليه - Mourlet) كانت ضد "الدفاتر". هوجم روسيليني، وَهوكس، وَهيتشكوك، وَبريسون. كنتُ أرى أن "الدفاتر" يجب أن تكون مجلة للتعبير عن الأفكار بحريّة. لقد انتهت مُهمّة أناس الموجة الجديدة في الدفاتر، وكان يجب تغيير الأمور. وجّهوا إليّ اللوم بسبب هذا الانفتاح الذي أحدثته، فرحلت، وحلّ ريفيت محلّي.


مجلّة ليزينروك: في مجموعة مقالاتك المُعَنوَنة "السيلولويد والرخام"، كانت إحدى أقوى أفكارك تقول إن السينما تسلّمت مهمّة استكمال باقي الفنون لأن بحسبك كان الرسم مُستنزفًا ومُرهقًا، والأدب الشيء نفسه، أما السينما فكانت في قمّة تطوّرها. هل كنت ستكتب الأمر نفسه اليوم؟
إريك رومير: هذا صحيح في ذلك الوقت، ولكني لا أدري هل الأمر ينطبق على اليوم أيضًا أم لا. لا أستطيع أن أكون حكمًا وطرفًا في الوقت نفسه. لا أعرف الكثير عن الفنون الأخرى، ولكن يبدو أنها تهجع كثيرًا. أنا أقل ميلانكولية من بعض زملائي، ولكني لم أعد أستطيع استشراف المستقبل، لم أعُد في مثل هذه السنّ التي نرى فيها المستقبل. لن أكون على قيد الحياة في القرن الـ 21 -مات رومير في 2010-، ولذا لا أرغب في رؤية ماذا سيحدث. عندما كنتُ ابن الـ 20 أو الـ 30 عامًا، شعرتُ أنني سأكون نشطًا في نهاية القرن الـ 20. لم أعُد أستطيع إصدار أحكام قطعيّة ومُطلقة كما اعتدتُ أن أفعل من قبل، كما أنني لستُ على دراية كافية بما يحدث الآن. الأفلام الوحيدة التي أشاهدها في السينما هي أفلام زملائي. أشاهدُ بقية الأفلام بعد ذلك بعدّة سنوات. أنا مثل كثير من المُخرجين، عندما نشيخ، نصبح أقل فضولًا. كان (جان كوكتو - Jean Cocteau) فضوليًّا للغاية حتى موته، ولكني لستُ من هذا النوع.


(النص الأصلي)

المساهمون