"معهد الدوحة للدراسات العُليا".. لإنتاج معرفة عربية

"معهد الدوحة للدراسات العُليا".. لإنتاج معرفة عربية

08 مايو 2017
+ الخط -

لعلّها قليلة هي تجارب المؤسّسات الأكاديمية الجامعة في العالم العربي؛ إذ إننا بالكاد نعرف مؤسّسة تعليمةً يحتضن فضاؤها طلّابًا وطالباتٍ ينتمون إلى عدّة بلدان عربية، يتشاركون المعرفة، ويسعون إلى إنتاجِها.

إحدى هذه المؤسسات، هي "معهد الدوحة للدراسات العُليا"، الذي انطلق عامه الدراسي الأول في 2015، ويتحضّر طلّاب هذا الفوج إلى التخرّج في الأشهر المقبلة.

بحسب موقعه، فإن المعهد "يسعى لتوفير بيئة يتفاعل فيها التدريس والتعلّم مع الأبحاث؛ حيث صُمّم المعهد معماريًّا خصيصًا لتحقيق هذه الغاية. ومن هنا يكون التدريس والتعلّم عبر وسائط متنوعة تعزز التفاعل والنقاش بين الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية، فالحوارات والندوات التعليمية وورش العمل تكمل الحلقات النقاشية والمحاضرات التي تجرى في الغرف الدراسية".

يمكن التماس هذا الأمر حقيقةً عند زيارة المعهد؛ إذ نرى الطلّاب في حرمه يتبادلون الأفكار والرؤى، ويشاركهم ذلك بعض أعضاء هيئة التدريس الذين لا يتوانون عن الجلوس مع الطلاب إلى طاولات الكافتيريا مثلًا، لمناقشة قضايا متنوّعة.

هكذا، كان لـ "جيل" زيارة إلى المعهد؛ حيث التقى بعض الطّلبة وتحدّث إليهم.

التقينا بداية بالطالب ربيع عيد، من فلسطين، الذي شاركنا تجربة الدراسة والنشاط الطلابي الثقافي قائلًا: "لا شك أن تجربة معهد الدوحة للدراسات العُليا هي تجربة فريدة وأولى من نوعها على مستوى الوطن العربي، فوجود كل هذا التنوّع الطلابي الثقافي في بيئة أكاديميّة واحدة، يخلق أجواءً تفاعليّة نتجاوز فيها الهويّات القُطريّة وننفتح فيها على تجارب متعددة ومعرفة واسعة، الأمر الذي ينعكس أيضًا على إعداد شخصيّة الطالب كباحث في الأساس، فكما تعلم، للجامعة وفضائها دور مركزي في تنشئة الباحث وآفاقه الفكريّة ووعيه المعرفي قبل أن يبدأ في العمل في مركز أو مؤسسة بحثيّة ما".

يضيف عيد، الذي انتخب رئيسًا للمجلس الطلابي في المعهد: "خلال العامين المنصرمين، تبلورت حالة من الفضاء العام الطلابي غير موجودة في أي جامعة عربيّة، من خلال الدراسة الأكاديميّة والفعاليّات والنشاطات التي ينظّمها المعهد والمركز العربي للأبحاث، وانخراط الطلاب في العمل كمساعدين باحثين للأساتذة أو في أقسام مختلفة داخل المعهد، وأيضًا من خلال النشاط الطلابي الذي يُنظّمه الطلاب أنفسهم على أكثر من مستوى: داخل أقسامهم التعليميّة وفي النوادي الطلابيّة ومع شؤون الطلاب، وفي المبادرات الفرديّة والجماعيّة العديدة منها مثلًا الميدان الطلابي الذي يُنظّم في المساكن أسبوعيًا".

يشير عيد لتجربة المجلس الطلابي: "ما يُميّز هذه التجربة عفويتها ونُضجها؛ إذ استطاع الطلاب بأنفسهم من خلال عملية تراكميّة على مدار عام من الحوار والنقاش المسؤول والاجتماعات وكتابة المقترحات، تأسيس مجلس طلابي لتمثيل الطلاب وتنظيم قضاياهم وخلق مساحة حواريّة بين الطلاب أنفسهم دون الوقوع في فخ الأيديولوجيّات أو النجوميّة أو التنافسيّة المتعصّبة التي تسود عادة كمظاهر تُرافق عمليّات انتخاب أو تشكيل مجلس أو اتحاد ما".

(تصوير: إبراهيم عبد الجواد)


يوضّح: "ما ميّز التجربة الحرص على نجاحها من خلال الحوار والاحتكام للأدوات الديمقراطيّة، إضافة إلى كونها نتاج حراك طلابي عام بُنيَ على عدة مراحل، واجهنا خلالها العديد من التحديّات الصعبة كونها تجربة أولى في بيئة جديدة. ولعل عنصر النجاح الأساسي فيها هو إيمان الطلبة، أن ما يقومون به هو مساهمة في عمليّة تأسيس وتشكّل المعهد، الذي يحمل في رسالته مساحة لهذا التفاعل والفضاء الذي يُنمّي الفضول الفكري، ويعزز الوعي النقدي، ويؤدي إلى تشكيل "مجتمع ممارسة"، متجذّر في وطنه، قادر على التفاعل بثقة مع المعرفة العالمية". يخلص عيد إلى القول: "ربما من المبكّر الحكم كليًا على التجربة، فما زال هناك تحديّات، إلا أنه من المؤكد أن التجربة سيكون لها أثرٌ هامٌ في المستقبل".

أما الطالبة وضحى المري من قطر، التي تدرس العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليةّ، تقول: "مثّلت دراستي في المعهد تجربة مختلفة في مسيرتي التعليميّة والحياتيّة، فعلى الرغم من أنني أعيش في مجتمع منفتح وفيه كثيرٌ من الجنسيّات المختلفة، إلّا أن معهد الدوحة شكّل لي حالة فريدة بجمعه جميع الجنسيّات العربيّة تقريبًا في فضاء يُعلي من شأن اللغة العربيّة، ويحترم وجودها بخلاف تجاربي الدراسيّة السابقة". تضيف: "عشت في المعهد تجربة أكاديميّة مثيرة اعتمدت على فكرة تقاطع التخصصات ضمن مادة "قضايا في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة" العابرة للتخصصات، كما وجدت باستضافة العديد من الباحثين والمفكرين تجربة تُغني الطالب وتمكّنه من التواصل المباشر معهم ومناقشة أفكارهم ونقدها".

من كلية الإدارة العامة، التقينا الطالب محمد عيسى من السودان، الذي يرى أنّ النظام الأكاديمي في المعهد، من ناحية وسائل التدريس والمعايير العامة هناك، "تختلف عمّا عهدناه سابقًا في الجامعة التي درسنا فيها".

يشير عيسى إلى أن الوسائل المستخدمة في التدريس أكثر تطوّرًا ممّا عرفه: "يوفّر المعهد لنا مستوى تكنولوجيًا علميًا عاليًا، إذ نناقش المسائل الأكاديمية عبر وسائل غير تقليدية". يضيف: "إلى جانب ذلك، فهو يوفّر لنا أيضًا مصادر ومراجع في مكتبةٍ كبيرة، بشقّيها الورقي والإلكتروني. والأهم، أنّ معظمها باللغة الإنكليزية، ما يزيد من قوّة اللغة لدينا، خصوصًا على صعيد اللغة العلمية".

في هذا السياق، يتحدّث عيسى عمّا يُنتجه الطالب نتيجة كل تلك الوسائل المتقدّمة: "لم نعتد على أن نعمل على أبحاث ونناقشها، إلا أنّ التدريس في المعهد يركّز كثيرًا على أن نُنتج أوراقًا بحثية يتم تقييمنا من خلالها، وهذا كله يجعلنا بعيدين عن التلقين والحفظ والتفريغ على الورق كما عهدناه في جامعاتنا ومدارسنا".

يذهب عيسى بنا للحديث عن الجانب الثقافي والتفاعلي في المعهد، فيوضّح أنه يأتي في قسمين؛ منهجي وغير منهجي. بالنسبة للأول، فهو فعاليات تنظمها إدارة المعهد. أما اللامنهجي، فهي فعاليات ينظمها الطلبة، مثل استضافة بعض الفنانين أو تنظيم قراءات في كتب من قبل الطلاب أنفسهم.

لعيسى مأخذ على تنظيم هذه الفعاليات، وهو أنّها تتم "في فترات قصيرة المدى، من دون وضع خطّة واضحة تنتظم فيها". يوضّح: "هذه الفعاليات مهمّة، فهي تعرّفنا أكثر بثقافات بعضنا بعضًا، وتمنحنا متنفّسًا ثقافيًا ترفيهيًا بعيدًا عن الأكاديميا".

(تصوير: إبراهيم عبد الجواد)


ليس عيسى وحده من يركّز على أهمية هذا الانصهار الثقافي العربي في المعهد، فكذلك الطالب المغربي أشرف اقريطب من المغرب، الذي يدرس اللسانيات والمعجمية العربية، يجد في المعهد فرصةً كبيرةً في التعرّف إلى لهجات وثقافات عربية وغير عربيّة متنوّعة وغنية، بحسب تعبيره.

إلى جانب ذلك، يقول اقريطب، إن المعهد يشكّل له "تجربة جديدة وغنية؛ إذ تعرّفنا إلى أساتذة كثر، كل من منهم ينتمي إلى مدرسة وخلفية أكاديمية مختلفة عن الآخر". يضيف: "اكتسبنا مهارات كثيرة؛ فلغتي الإنكليزية تطوّرت بشكل كبير، أصبحنا قادرين على كتابة الأبحاث، لم نعد متلقّين وحسب، بل نكتب ونُنتِج"، مشيرًا إلى أنّه لم يكن لديه مقالات منشورة من قبل، إلا أنه وأثناء دراسته في المعهد، نشر بعض المقالات في مجلّات علمية محكّمة.

يبدو أن اقريطب يفتقد إلى ما يفتقد له عيسى أيضًا. يقول: "لا يقتصر دور الطالب، عادةً، على وجوده في قاعات المحاضرات، بل يحتاج إلى أن يكون مشاركًا في فعاليات ثقافية أكثر. هي موجودة، لكنها قليلة وبحاجة إلى تنظيم والعمل على استمراريتها بحيث تصبح جزءًا لا يتجزّأ من هذه المؤسسة". كما يقترح أيضًا وجود ورشات عمل تتعلّق بما يدرسه الطلاب تسير بالتوازي مع ما هو أكاديمي.

على إحدى طاولات كافتيريا المعهد، كان رئيس برنامج علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، إسماعيل ناشف، يجلس مع بعض الطلّاب. انضممنا إلى الجلسة، لإجراء مقابلة مع ناشف يحدّثنا بها حول الرؤية الأكاديمية والعلمية للمعهد.

يركّز صاحب "طفولة حزيران" في حديثه إلى "جيل" على الرؤية الجوهرية التي ينطلق عمل المعهد عمومًا، وتخّصص السيسيولوجيا خصوصًا، منها. يقول: "في برنامجنا، ثمة ربط مباشر ما بين الفكر الاجتماعي النقدي، واللحظة الراهنة للمجتمعات العربية؛ إذ نُعدّ الطّلبة لامتلاك الوسائل والمهارات المنهجية لتوظيفها في إنتاج المعرفة".

يوضّح: "بعد ما شهده العالم العربي في الأعوام الأخيرة، نحن بحاجة إلى تمكين الشباب من إعداد مقاربات جدلية ما بين الإرث الفكري العربي واللحظة الراهنة، لمحاولة فتح آفاق معرفية يتمكّن من خلالها الطلبة من التعبير عن هذا الراهن، ومآلاته".

باختصار، وفق ناشف، فإنّ المعهد يحاول أن يغادر "السوق الأكاديمية"، بهدف البحث عن إمكانيات معرفية أخرى، باستخدام الجسدين المعرفيين الغربي والعربي، وإعطاء الطالب فرصةً لألّا يكون مستهلكًا وحسب، بل منتجًا بشكل أصيل لمعرفة مفارِقة، وذات خصوصية، عمّا هو مستورد.

بالنسبة إلى المعهد بالعموم، بحسب ناشف، فإنّه عبر التنوّع الذي يضمّه من جنسيات عربية ومدارس معرفية مختلفة، يسعى إلى الخروج من القُطرية أيضًا، وخلق بوتقة عربية جامعة تنطلق كلها من الإرث الفكري العربي والعالمي.

هكذا، بالنسبة إلى ناشف، فإن المهمّة ليست سهلة، بل تراكمية: "جيلٌ يراكم جيلًا، ولا يلغيه. إننا نحاول أن نشتبك نقديًا مع المعرفة ضمن بنية مؤسساتية تمنح هامشًا من الحرية والإبداع في النقد".

يشير أيضًا إلى الاختلاف الذي قد يكون مُربكًا بالنسبة لبعض المؤسسّات الأكاديمية، فيوضّح أن المعهد يضمّ ثقافات مختلفة عن بعضها، بين قوى محافظة، وأخرى على العكس من ذلك، لكن هذا يُساهم، أيضًا، بتشكيل تجربة جامعية حقيقية.

لا يؤمن المعهد بعزل كلّ تخصّص على حدة، بل يذهب إلى ما يُسمّى بـ التخصّصات العابرة؛ إذ إن كلّ تخصّص يمكنه أن يشتبك من تخصّصات أخرى ويلتقي معها ويستفيد منها.

هكذا، وفق طالبة الإعلام والدراسات الثقافية، آية حسين من مصر، ثمّة محاضرة اسمها "قضايا في دراسة العلوم الاجتماعية"، تنتظم أسبوعيًا، يحضرها طلّاب المعهد بمختلف تخصّصاتهم؛ ليناقشوا فيها موضوعًا معينًا.

من هنا، تقول حسين، التي عملت سابقًا في إحدى المؤسسات الإعلامية، إنه لم يكن لديها أي خلفية سابقة عن البحث العلمي والإطار النظري الذي تحتكم إليه المؤسسة الإعلامية العربية: "الآن أعرف كيف أُنجز بحثًا علميًا متكاملًا، وهذا ساهم في تغيير رؤيتي إلى طبيعة العمل الإعلامي".

توضّح: "اكتشفت أن سوق العمل شيء، والبحث العلمي وطريقة تعاطيه مع المهنة بصورتها التطبيقية شيءٌ آخر تمامًا؛ فاختلفت طريقة تناولي لأي قضية لأن نظرتي أصبح لها مرجعية علميّة تتداخل مع المعطيات المهنية". تضيف: "مثلًا، تغيّر فهمي للجمهور، وازداد الحسّ النقدي لديّ في النظر إلى القضايا وطرق معالجتها، أصبحت أفهم خصوصية كل مجتمع من دون أن أقيّمه بناءً على ثقافتي الشخصية أو المجتمعية".

وبحسب حسين، فإنّ التنوّع الذي يحتويه المعهد، واختلاف الثقافات فيه، أيضًا ساعداها على تطوير نظرتها وتعاملها مع البيئات الاجتماعية المُختلفة.

 

 


 

المساهمون