إيكيا.. بيتٌ واحدٌ لملايين السكّان

إيكيا.. بيتٌ واحدٌ لملايين السكّان

15 ابريل 2017
+ الخط -

نستطيع تتبع سلوكٍ إنساني متجذرٍ في قدمه، متطورٍ عبر المراحل، منذ رسوم الكهف الأولى حتى المشهد السينمائي المليون الذي تندفع فيه مراهقةٌ إلى غرفتها باكية، لتحتضن دبها أو تكمل بكاءها أمام ملصق ما.

في كلتا الحالتين، وعند رجل الكهف أو ليندسي لوهان بدور المراهقة، يشغل الإنسان حيّزًا من الفراغ يُطلِق عليه اسم المسكن بشكلٍ عام، سواء كان داخل الجبل أو مبنيًا فوقه، ويجتهد في تحويله إلى مساحةٍ يُعرَف هو من خلالها، وتعبر عن مكنونه الداخلي، وبالعكس أيضًا، بحيث تكون هذه العملية دقيقة، تمتد إلى غالب تفاصيل ومحتويات الحيّز.

وشأنها شأن غالب سلوكياتنا، تصل هذه الرغبة بالاقتناء/ التعبير حد الإفراط أو الهوس: "بيتٌ مليء لشخص مهووس، أو فارغ، ربما." وإذا ما عدنا للسينما نفسها، إلى فيلمٍ مثل Fight Club، سنجد في بدايته بيتًا يطف بمفروشات IKEA التي تُقدِم لنا شخصية قاطنه؛ "المعلّق".

وإذا اتفقنا في بداية المقدمة السابقة على هذا السلوك البديهي، فإننا نورد في نهايتها شيئًا عن نهايته هو، أو التغير الواضح في معالمه. فمنذ أربعينيات القرن الماضي، حين بدأت عملها، وحتى يومنا، شقت IKEA، شركة المفروشات السويدية طريقها إلى المنازل بهدوءٍ وثبات، مدعومةً بعوامل اجتماعية واقتصادية شتى معملة أثرها في 32 دولة و202 متجر.

قد يصعب الحكم على هذا الانتشار بسهولة أو اتخاذ موقفٍ واضح منه، ففيما تُتَهم الشركة بطمس الهوية الفردية، تستطيع تقديم كاتالوجها كوثيقة دفاع لوفرة الخيارات التي يقدمها مبعدًا تهمة الحصر، ولكون هذه السلع معقولة الثمن فيُطرَح سؤال: هل يعد التفرد مهمًا أمام السعر المعقول والإتاحة؟

لكن من جهةٍ أخرى، وبينما تُقدِّم الشركة خياراتها الوفيرة للمستهلكين في مدينةٍ واحدة على سبيل المثال؛ فإنها، وعلى مستوى عالمي، تتعدى طمس الهوية وقليلًا ما تراعي الاختلافات الثقافية بين زبائنها في الشرق الأوسط مثلًا وشمال أميركا، فارضةً على الجميع نسقًا سويديًا (عالميًا) حداثيًا واحدًا، لا يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الموارد في هذه المناطق ولا الموروث الاجتماعي الذي لم يوجد بين ليلةٍ وضحاها الشكل المعماري والرسم الداخلي للمنزل، بوصفه تعبيرًا ماديًا ملموسًا عن هذا الموروث، سواء كان متعلقًا بوضعية أفراد الأسرة وتراتبيتهم حول طاولة المائدة أو الطريقة التي يصممون بها غرفة استقبالٍ مرتبطة بنمط العلاقات في المجتمع.

وليست النقطة السابقة، بأمثلتها، دعوةً إلى رفض التطور أو تشبثٍ أعمى بـ "الميراث" الذي يُصبِح مجرد الحديث عنه أحيانًا تهمةً بالتخشب، إنما سؤالًا ببساطة: هل يمكن أن نُحتَوى بقالبٍ سويدي واحد؟

أما النقطة الثانية التي يُمكِن أن تساق دفاعًا عن الشركة، تلك المتعلقة بالتكلفة المعقولة وتقريب "الأثاث العصري الجميل" من أفراد الطبقة الوسطى الذين يفترض أن حشو منازلهم بات أكثر ديموقراطية، فهي ليست أحادية الجانب. فلمّا كانت التكلفة معقولةً فعلًا، إلا أنها ليست إلا تكريسًا لسلوكيات الاستهلاك المفرط، والشركة ذاتها عبر جهازها الدعائي تروّج لشعارات التبديل المستمر والتجديد، حتى إنها في إحدى إعلاناتها التي أخرجها سبايك جونز، تدعو المستهلك إلى سؤال نفسه: "هل يستحق المصباح القديم الأحمق تلك الشفقة؟" بتجاهلٍ تام لما قد تعنيه الذكرى التي لا تستطيع مقاومة البضائع الجديدة، الغارقة في التبسيط، التي تفوق تكاليف نقلها ثمنها الأصلي أحيانًا.

وتنجح الشركة السويدية في اقتحام المساحة عبر عوامل عدة، أهمها اللعب على وتر الغائية. إن IKEA تروج لمنتجاتها كافة على أنها ذات طابعٍ وظيفيٍ بحت. فعند شرائك قطعة أثاثٍ من IKEA فأنت، كما يفترض، مدفوع بسبب ماهيتك كمصمم أو رسام أو كاتب أو غيرها، بل ويلعب امتلاكك بعض هذه القطع دورًا في إثبات هويتك هذه، الأمر الذي يجعل لعبة القطع المتشابهة هذه أكثر مكرًا وتصاعديةً، وفق "تأثير ديدرو"، الذي بموجبه وباختصارٍ شديد يُمكِن لتغييرٍ طفيف في إحدى مكونات نسقٍ ما أن يصل باقي هذه المكونات ويوجهها، كما حدث مع دينيس ديدرو نفسه الذي غيّر شكل مكتبه ليتلاءم مع قطعةٍ جديدة أدخلها إليه.

وبينما يُمكِن إلقاء اللوم على الشركة أو التخوف منها إلى ما لا نهاية، إلا أن نجاحها لحدٍ ما ارتبط بعوامل عدة خارجية، تتعلق بمفهوم المنزل والأسرة ونمط الحياة.

ففي السنوات الأخيرة، شهدت نسب الشباب (بين عمري 18-34) ممن يمتلكون منازل أدنى مستوياتها منذ أكثر من 30 عامًا، ويعود ذلك لعوامل عدة منها تغير طبيعة الأعمال والتنقل الدائم بحثًا عنها، إضافةً إلى ارتفاع أسعار العقارات، خصيصًا لشرائح شابة قد تكون استنفذت مدخراتها، وما تستطيع استدانته، ثمنًا للتعليم الذي يشهد عالميًا ارتفاعًا في تكاليفه.

من جهةٍ أخرى، فإن الجيل الشاب الحالي يأخذ موقفًا مغايرًا من الزواج والاستقرار. يترافق ذلك مع ارتفاع متوسط عمر الزواج إلى أواخر العشرينيات وانخفاض نسب المتزوجين. ويمكِن أن يعزى ذلك إلى ذات الأسباب الاقتصادية، التي تجعل من الاستقرار أمرًا صعب المنال، وإلى أخرى اجتماعية ترفض الزواج كمؤسسة وفكرة، ولم تعد تؤمن بكونه على قمة الهرم الاجتماعي، وفي حالاتٍ أخرى ترفض التسليم بقواعد الزواج التقليدية وتقترح أخرى بديلةً لها، كالزواج التجريبي Bet-marriage وهي فكرة مطروحة منذ ستينيات القرن الماضي، لكن لم تجد بيئةً اجتماعيةً تحتويها إلا في القرن الواحد والعشرين.

إن التغير في نمط الحياة هذا، على الصعيدين السابقين بشكلٍ رئيس، لا شك سينعكس على الحيّز الذي تحدثنا عنه سابقًا، بل وسيجعل من قطع الأثاث معقولة الثمن التي تُجمَع في المنزل خيارًا مغريًا للجميع، وللجيل الشاب خصيصًا (الذي يشكل، وليس على سبيل المصادفة، أكبر مستهلكٍ لمنتجات IKEA.)

وبينما يحفل سجل IKEA بما لا يشجع على تقبلها بسهولة، كمغامراتها مع التهرب الضريبي تحت رداء "الفيلانثروبيا" وتشجيعها الاستهلاك المفرط وبالتالي استهلاك الموارد الطبيعية، علاوةً على استغلالها العمالة الرخيصة –كما في فيتنام مثلاً- بل وعمالة السجناء في ثمانينيات القرن الماضي. إلا أنها تعمل اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى وتتوسع في أعمالها، بل وبدأت تأخذ بعين الاعتبار مواضيع كالاختلافات الثقافية وأصبح قاموسها يزخر بالمفردات الصديقة للبيئة ولا يبدو الطريق امامها وعرًا.

وفي عصر الإنتاج الهائل هذا، حيث يحدث كل شيء بسرعة، ليست IKEA إلا تعبيرًا عنه وعن خصائصه، بل كونها تُعنى بـ "الحيّز" وما داخله يجعلها فعلًا قادرةً على التعبير عن حالة اجتماعية، على الأقل وفقًا لوينستون تشرشل الذي قال يومًا إن "الأبنية التي نصنعها تساهم في صنعنا هي الأخرى".

لكن وبنفس الوقت، يقدم العصر ذاته بفعل التقدم التكنولوجي حلولًا بديلة، حيث يساهم على سبيل المثال في دعم ثقافة المنتج Maker Culture؛ الحركة الآخذة في النمو والتي توفر مساحةً لتبادل الأفكار والتصميمات وبالتالي التنفيذ على أصعدةٍ شتى، من الأثاث وحتى البرمجيات، مستفيدةً من الكشوفات في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد والبرمجيات مفتوحة المصدر. وتدعم بفعل التكلفة المنخفضة والإتاحة وقابلية التعديل تنوعاً في الحلول، مع أخذها في عين الحسبان، وفي صميم فلسفتها، القضايا البيئية والاجتماعية، التي تغفلها الشركات الكبرى ويتوقع لها أن تحتل 60 % من الأسواق العالمية في حلول عام 2030.

المساهمون