تأنيث الاحتجاجات في الشّارع المغربي

تأنيث الاحتجاجات في الشّارع المغربي

15 نوفمبر 2016
(تصوير: صابر الطيبيوي)
+ الخط -

بعد مظاهرة أولى لم يغب عنها الشّغب، ذهبتُ إلى مكان التّجمع بقليل من الحذر، في السّاعة المعلنة لانطلاق المظاهرة. لكنّها تأخّرت، بسبب عرقلة التحاق المتظاهرين القادمين في مسيرات من الأحياء المتضررة.

في السّاحة/نقطة اللقاء، تحلّق أفرادٌ متفرقون ينتظرون التحاق الباقين في جماعات صغيرة. وسط المجموعات، لفت انتباهي امرأة شابّة تقف مع ابنتها التي أصيبت بحجر في رأسها، في احتجاجات الأسبوع الماضي.

مع ذلك أنتُما هنا اليوم؟ أجابت بهدوء: لأنهم لم يتركوا لنا خياراً، أتعرفين الفاتورة التي أُرسلت لنا هذا الشهر؟ إنّه مبلغ مهول ولن نقدر أبداً على تسديده، لذا سنأتي دائماً حتى يجدوا حلًا.

هذه إحدى يوميات الاحتجاج في المغرب، التي أصبحت مؤنّثة الآن، ولم تعد حكراً على الرّجال، خصوصاً بعد مظاهرات حاشدة في مدينة طنجة ضد الشّركة المفوّضة بتدبير الماء والكهرباء في المدينة؛ حيث كانت مشاركة النّساء اللواتي خرجن من كلّ الأعمار للتّظاهر لافتة. بعضُهن حملن أطفالًا على ظهورهن وردّدن معهم الشّعارات بحماس. والشّابات ذوات الخبرة في العمل الاحتجاجي، كنّ يقدن مجموعات النّساء.

تحرص اللّجان المنظّمة في المظاهرات على ألا تتعرّض المتظاهرات لأي تحرّش أو تزاحم وسط الرجال، لذا يتم عزل النّساء في مجموعات خاصة تقودها فتيات، إذا كان عدد المشاركين في المظاهرات كبيراً، ويختلطن مع الرّجال إذا كان العدد قليلًا.


من الصفوف الخلفية إلى الواجهة
اقتصر الخروج منذ الخمسينيات إلى الشّارع للتّظاهر على الرّجال، فيما بقيت النّساء في الظّل في مناسبات عدة، أو كان حضورهن خافتاً في المظاهرات، خاصة مع الطّبيعة المحافظة للمجتمع المغربي.

إلا أن النّساء بدأن يخرجن بحماس أخيراً، في مناسبات عدة، خصوصاً مع تفاقم حدّة المشاكل ذات الطّابع الاجتماعي، وتحرّر المجتمع من نظرة العيب للمرأة المستقلة التي أصبحت تُعيل أسراً كاملة. ورأينا عدد النّساء يطغى أحياناً في الاحتجاجات القطاعية، المحدودة المطالب.

كما شهدنا احتجاجات كاملة تقوم بها نساء فقط، في تطوّر لافت لموازين القوى في المجتمع. في إحداها، رفعن شعاراً يقول "النّساء ها هنّ فأين الرجال؟"، هذا الشّعار جعل رواد "فيسبوك"، يحوّرون هدف المظاهرة، زاعمين أنها ضد العنوسة، بينما كان هدف المظاهرة الاحتجاج على انقطاع الماء عن المدينة الصّغيرة لمدّة عشرة أيام، من دون أن يتحرك أحد لتغيير الوضع.


ثورة الشموع
في "ثورة الشموع"، انتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، تقود فيه فتاة في العاشرة، مجموعة من النّساء عبر ترديد شعارات محرّضة على الشركة المحتجّ عليها، ليتجلّى التحرّر النسائي من سيطرة التقاليد التي كانت تخنق أصواتهن، في أجيال مختلفة من النّساء.

هذا الانفتاح الأنثوي على الاحتجاج، شمل مجالات أخرى تشغل بال المرأة، كالمشاكل التي تعترض دراسة الأبناء؛ حيث تقوم الأمهات بالتّظاهر أمام مراكز القرار، ومحاصرة المسؤولين، للاحتجاج على قرارات لا تراعي مصلحة أبنائهن.

هذه المبادرات تحمل مؤشّرات عدة، على تغيّر نظرة المرأة إلى دورها على السّاحة الاجتماعية والسياسية، وارتفاع الوعي الاحتجاجي لديهن، واقتناعهنّ أن بإمكانهن إجبار أصحاب القرار على الاستماع إليهن، دون غض النّظر عن احتمال أنهن يكنّ أحياناً مدفوعات من جهات أخرى أيضاً.

وشجّعت رؤية نساء خرجن في المدن المغربية في الاحتجاجات، على مقتل محسن فكري، أخريات، على المشاركة فيها، كما صرحت ليلى أحداد، إحدى المشاركات في هذه المظاهرات المستمرّة إلى الآن، لـ"جيل".

تضيف: "خرجتُ في هذه المظاهرة دون إشكال، ولم أشعر أن وجودي غريب، فحضور النساء كان قوياً، وهذا نتاج الوعي الذي أظهره أبناء الوطن ضد "الحكرة" والاستبداد، ومن أجل العدالة الاجتماعية".

تتذكر أحداد كيف كان الأمر منذ خمس سنوات خلال مظاهرات 20 فبراير: "كنت لا أزال تلميذة في الثّانوي، وأصرّ أبي على رفضه خروجي إلى الشّارع مع المتظاهرين، لكن بما أنه كان لدي أمل بالتّغيير الآتي من الشّعب، نسّقتُ مع شباب الحركة في مدينة الحسيمة، وحضرت فيها".

تؤكد أنه على الرغم من الحضور الضّعيف للنساء آنذاك، "إلا أنني لم أتعرض للتّحرش ولا للزّجر من طرف الشباب الذين نظّموا الحراك، بل حاولوا حمايتنا من عنف الشّرطة، وكانوا درعاً لنا".

بدورها، تحكي حياة بوترفاس، أستاذة لغة فرنسية وناشطة سياسية، المفارقة بين الأمس واليوم: "كنت من اللّواتي خرجن في مسيرات فاتح ماي مع الحركة الأمازيغية منذ سن صغيرة. في إحدى المسيرات، وجدت نفسي المرأة الوحيدة بين متظاهرين رجال، وقد كُمّم فمي بمادة لاصقة تعبيراً عن تراجع حرية التّعبير".

تضيف: "عندما عدتُ إلى البيت، تلقيت وابلًا من التّوبيخ من أخي الذي أخبر والدتي، لكني ثرتُ بشدة، وقلت لهم إنني لم أفعل شيئاً مخالفاً للأخلاق ولا للقيم، كنت أتظاهر فقط. الجميع يعرف وضع منطقة الرّيف المحافظة، وما تعانيه المرأة من قيود في مجتمع تقليدي، لم يكن يسمح بالاختلاط".

وتختم: "الآن لا أحد يمنعني، بما أن المرأة تحرّرت من أشياء كثيرة، وقطعت أشواطاً مهمة، واقتحمت ساحات النّضال خاصة بعد حراك 20 فبراير".


تفكيك البنى الاجتماعية
من جهتها، تعتبر وفاء اليابوري، محاسبة ومشاركة نشطة في معظم الاحتجاجات التي يعرفها المغرب، في تصريح لـ"جيل" أن "مشاركة الشّابات في هذه المظاهرات لها، إضافة إلى التأكيد على دورهن ومسؤوليتهن المشتركة، دور في دعم اختراق النّساء للفضاء العام، بشكل يساهم في تفكيك البنية الذكورية للمجتمع وللأبوية السائدة فيه، والتي تختزل النّساء في الفضاء الخاص، وفي الأدوار الاجتماعية المرتبطة به".

تضيف: "لا أذكر أني واجهت مضايقات من طرف من يشاركونني النّضال، وأقصد هنا أولئك المتشبّعين بقيم ومبادئ أساسها احترام الآخر عموماً والمرأة بالخصوص. وخلال تجربتي، أستطيع تمييز مستويات تعامل الآخرين مع وجود شابة في الاحتجاجات، الذي يتراوح بين الانبهار والتقدير للشّجاعة التي تبديها الشابات في التّواجد الفاعل وسط الاحتجاجات، وبين التّعاطي العادي الذي لا يشكل له تواجد الشّابات أي حرج أو يثير انتباهه".

لكن تتأسف وفاء، إذ "تبقى فئة ضيّقة -قد تنعدم تماماً في بعض الأشكال الاحتجاجية وقد توجد في أخرى- ما زالت تتعامل بمنطق مُشبع بالذّكورية، فتحاول مضايقة الشّابات بدرجات مختلفة، تصل أحياناً إلى درجة التّحرش اللفظي".

تجد وفاء مشاركة الشّابات في الحركات الاحتجاجية "شديدة الأهمية، أولاً لكونهن جزءاً من المجتمع، ولهنّ ارتباط أيضا، بقضاياه المتّعلقة بالديمقراطية والعدالة والحرّية. وثانياً، لكونهن ينتمين لنوع اجتماعي يعاني تمييزاً وإقصاءً، في مجتمع ما زالت تسيطر عليه النّزعة الذكورية، وبالتالي أعتبر هذه المشاركة نفسها تمريناً عملياً لخلخلة علاقات الهيمنة".

الصحافيتان ميساء أكزناي وسليمة زياني، أكدّتا لـ"جيل" أنهما تنزلان المظاهرات للمشاركة مبدئياً، وللتّرويج لها بتغطيات مباشرة. ولم يواجهن أيّ مضايقات أو تحرّش من المشاركين في المظاهرات، بل بالعكس كان كلّ شيء ميسراً لهما، حتى أن اللّجنة المنظمة للمظاهرات المحتجة على مقتل محسن فكري في "الحسيمة"، كانت تحرص على التّذكير بضرورة احترام النّساء خلال التّظاهر، وإفساح المجال لهن للمرور بأريحيّة.

المساهمون