حكايات التصفية.. القتل خارج المشهد

حكايات التصفية.. القتل خارج المشهد

25 يوليو 2017
(اشتباكات في القاهرة، تصوير: محمد الشاهد)
+ الخط -
"إحنا مش عايشين في دولة حقيقية.. دي شبه دولة"، هكذا وقف السيسي يتحدّث إلى الفلاحين في واحة الفرافرة احتفالًا بعيد الفلاح المصري، كانت الجملة من أحكم ما قال الزعيم الخالد، فما يحدث بمصر، لا يمكن استيعاب وجوده على أرض دولة حقيقية، لكنه ربّما يحدث في أشباه الدول، التي لا تعترف بالقانون، وتسود فيها شريعة الغاب، وشهوة الانتقام، ويحلّ الإعلام محل التوعية، وتحل الشرطة محل القضاء، وتسود التصفية الجسدية بديلا عن أحكام القانون.

على مدار التاريخ لم تعرف مصر التصفيّة الجسدية، كوسيلة من وسائل إنفاذ القانون، لكنها دومًا كانت في إطار مقاومة المحتل حينًا، أو الإرهاب حينًا آخر، لكن التصفية باسم الدولة، لم تكن عرفًا سائدًا حتى في ظل أسوأ الأوضاع الأمنية والأنظمة السياسية قبل ثورة يناير، لكن مؤخرًا صار القتل خارج إطار القانون هو الثابت في أم الدنيا التى لم تصبح "أد الدنيا".


الجريمة الأولى
في رمضان 2015، كانت الأوضاع هادئة، لم يزل السيسي في بداية العام الثاني من الحكم، ولم تزل الداخلية تسعى إلى تثبيت أركان الحكم، في الشهر المبارك، قُتل عدد من الجنود في سيناء، كما هي العادة السنوية للحوادث الإرهابية، وفي القاهرة تم تنفيذ أخطر عملية اغتيال شهدتها مصر منذ تولي السيسي، فتم اغتيال النائب العام السابق، المستشار هشام بركات، بسيارة مفخّخة، لم ينته الشهر بعد.

ومع اقتراب العيد، كان الانتقام الأوّل، فقامت الداخلية باقتحام شقّة "6 أكتوبر" في أوّل عملية تصفية جسدية لأعضاء من جماعة الإخوان "الإرهابية"، كما وصفهم بيان الداخلية في ذلك الوقت، فقد نجحت قوّات الأمن في التصدّي للمجموعة التابعة لحركة "حسم"، والتي كانت موكلة إليها مهمة تنسيق "العمليات الإرهابية" وتمويلها، وتجهيز منفذيها وتدريبهم، تسعة من أعضاء جماعة الإخوان تمت تصفيتهم، من بينهم القيادي البارز بالجماعة "ناصر الحافي".

صورة أخيرة لثمانية من قيادات الجماعة كان تاسعهم الحافي، الهارب من حكم غيابي بالإعدام، هي كل ما تبقى لأسرته وأهله، جلباب ملطخ بالدماء، وسلاح آلي ملقى بجوار جثمانه، تجاوره مجموعة من الأوراق المبعثرة بترتيب، رُفعت الصورة في جنازته، لم ترفعها زوجته، ولا أبناؤه الثلاثة الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة، لكن رفعها من فوضوا السيسي لمحاربة الإرهاب فقتل من دافع عنهم ذات يوم.

أمام المقبرة التى دفن فيها "الشهيد الصائم"- اللقب الذي منحته التصفية لـ الحافي، ومنحه الإعلام لـ بركات- تسابق الجميع للتبرؤ من دعم الانقلاب، وغسل أيديهم من دماء النائب البرلماني السابق"احنا فلول ونزلنا دعمنا السيسي ونزلنا فوضناه لكن مش عشان يقتل ابننا.. ابننا الحافى لأ يا سيسي"، ودعت القليوبية شهيد التصفية الأولى في الثاني من يوليو/ تموز 2015، وفي الشهر نفسه بعد عامين تستعد القليوبية لتوديع الضحية الجديدة للتصفية محمد عوّاد.

مثل كثيرين، مسّه الحلم مرّة، فصدقه، وتبع هواه، اعتقد أن شعار "الإسلام هو الحل" سيصبح قادرًا على العودة من جديد، منذ يناير/ كانون الثاني 2011 تغيّرت أحوال الشاب الثلاثيني، فقد شغلته مصر، عن مشاغل الدنيا، خرج من بيته الصغير ملبيًا نداء الوطن، في المظاهرات تارّة وفي الانتخابات تارّة أخرى، ولم يكن محمد عوّاد، يعلم أن آخر النداءات ستكون في اعتصام سيدفع الباقي من حياته ثمنًا له، عبر فيسبوك، نشر محمد صورة له، حاملًا طفله الوحيد، عمر، هكذا سماه، ربما تيمنًا بالراشد الفاروق الذي سيعيد ولده سيرته الأولى، فيفرّق بين عهدين، الثورة، والانقلاب، بعد شهور قليلة من ميلاد الصبي، عرف الجميع كيف سيفرق عمر بين عهد سبق قتل أبيه وعهد سيأتي من بعده.

بكالوريوس تجارة، وعمل غير مستقرّ، وإمام مسجد ومُدرّس قرآن، هكذا كانت الرحلة القصيرة لعوّاد، الذي خرج من منزله قبل شهر، ولم يعد، تاركًا خلفه زوجة وطفلا وثلاثة من الإخوة كان هو أكبرهم، في سبيل الله خرج محمد من منزله، للقيام بمهمته اليومية في تحفيظ القرآن لأطفال الحي، لكنه لم يكمل المهمّة، فقد كانت سيارة مجهولة في انتظاره، وشهر من القلق والبحث والتفتيش في انتظار أسرته.


التصفية كـ حدث يومي
أب يعمل ترزيًا، يخيط الملابس الجديدة، ولا يترفّع عن قص عباءة، أو ثني بنطال، فالرزق شحيح هذه الأيّام، وعليه أن يساعد ولده الأكبر الذي يعول بيته وبيت العائلة، أعلنت الداخلية في صباح السبت الماضي مقتل عواد ضمن مجموعة ضمت سبعة من المنتمين إلى "الجماعة الإرهابية" كان هو ثامنهم في عملية تصفية مفاجئة بالفيوم، شهر مرّ على اختفاء عواد، لم يره الأب فيه، ولم يعرف عنه شيئًا قط، سوى تأكيد الجميع اختطافه من قبل قوّات الأمن، وبعد ثلاثين يومًا يأتي بيان الداخلية بمزاعمه أن الفتى الساعي في سبيل الله لم يكن سعيه من أجل تحفيظ القرآن ورعاية الأرامل والأيتام، بل كان سعيًا للإرهاب وأن الجهاد في سبيل إسقاط الانقلاب كان أسمى أمانيه، لم يتسلّم الرجل الستيني جثة ولده حتى الآن، بعد تهديده من قبل الأمن، ورفضه لرواية الداخلية عن مقتله، فكان العقاب حرمانه من ولده حيًا وميتًا.

رواية ثابتة في كل جرائم التصفية لا تتغيّر، يختلف الأشخاص، وتتغيّر الأماكن، وتتبدّل الأسباب، وتبقى الرواية واحدة، اشتباك وتبادل إطلاق النيران، هكذا كان بيان الحافي الأوّل، وبيان عواد الأخير، وبينهما العديد من البيانات التي سجّلت العشرات من عمليات التصفية، لم يختلف فيها الحافي نائب القليوبية الشهير، والقيادي البارز بالجماعة، عن الشاب المغمور، الذي لا يعرفه أحد، فالكل في التصفية سواء حتى وإن كان إمامًا مغمورًا لمسجد في البصارطة.

في شمال مصر، تقع البصارطة، قرية صغيرة تابعة لمحافظة دمياط، ربّما لم يكن ليعرفها أحد، لولا أن اجتاحتها قوّات الأمن وحاصرتها أيامًا طويلة، وقتلت العديد من شبابها والسبب "تبادل إطلاق النار"، هكذا قال البيان الذي نشرته الداخلية عن مقتل الشاب الإخواني محمد عادل بلبولة، حياة مستقرة لإمام مسجد عادي، قضى معظم حياته في محاولات الصلح بين المتخاصمين، ومساعدة المحتاجين.

يومٌ عادي يقضيه في المسجد بين الصلاة والقرآن وتعليم الفرائض، وليلاً مشغول باللعب مع صغاره ورعاية شؤونهم، مريم ذات خمس سنوات، وعادل ذو السنوات الثلاث، الذي سماه على اسم والده، كعادة الكثيرين من أهل الأرياف، كانت حياة الإمام الشاب خالية من المنغّصات، فلم يشغله فقر، ولم تذله مسألة، ولم تنحن هامته يومًا طلبا لسلطة، أو سعيًا لمنصب، فقط الشرطة وحدها تكفلت بالقيام بمهمّة تكدير صفو حياته.

20 قضية ملفقة لـ بلبولة، حرق وتكسير لشقته بالبصارطة، على مدار أسابيع، مطاردة مستمرّة، لم تتوقّف يومًا، ولم يهرب منها "الشيخ" الشاب، الذي استمرّ على الخروج في المظاهرة الأسبوعية للتنديد بجرائم الانقلاب، فقط ترك منزله خشية على أطفاله وفي يوم زيارته لهم ألقت قوّات الأمن القبض عليه.

"في محاولة لقوات الأمن استيقافه أثناء قيادة دراجته البخارية، قام بإطلاق النيران على القوّات مما دفعها للتعامل معه وأسفر ذلك عن مصرعه والعثور بحوزته على بندقية آلية"، هكذا فسر بيان الداخلية كيفية تصفية بلبولة، مشيرًا إلى أنه" كان مسؤولًا عن الحراك المسلّح"حسم" التابع لجماعة الإخوان المسلمين، نفت الجماعة أن يكون لها جناح مسلّح في مصر، ونفى متحدّثها أن يكون لها علاقة بـ حركة "حسم" الإرهابية، لم يكن نفي الجماعة هو الوحيد الذي برأ ساحة بلبولة، لكن أهالي البصارطة الذين خرجوا لتوديعه كانوا دليلًا آخر على كذب الرواية الملفقة بعد ساعات من اعتقال الشيخ من منزله.

ما تبقى من مراكز حقوق الإنسان بمصر، طالبت أكثر من مرّة بفتح ملف جرائم القتل خارج نطاق القانون، لكن بعد أن صارت التصفية حدثًا يوميًا، وتوارت أخبارها بعد أخبار الغلاء وارتفاع الأسعار ولقاءات السيسي بالشباب، وجلوس "إبنة البواب" بجوار الرئيس، لم تعد صورة الدماء تليق بالمشهد في "وطن ضايع" .

المساهمون