30 يونيو/ حزيران .. حتمية الثورة المضادة في مصر

30 يونيو/ حزيران .. حتمية الثورة المضادة في مصر

30 يونيو 2017
(في القاهرة، تصوير: كيم بدوي)
+ الخط -



"في كل بلد عانى تجربة الثورة؛ اشتبك الثوريون من جهة، والإصلاحيون وخونة المستقبل من جهة أخرى". هذه العبارة البسيطة والعفوية للمفكّر الفرنسي ريجيس دوبريه، في كتابه "ثورة داخل الثورة"، تُفصح عن المكبوت داخل ثورات الربيع العربي وتناقضاتها وتعرّي مساراتها الحقيقية ومآلاتها، فهي تكشف عن الصراع الخفي والجوهري في العلاقة بين الثورة والثورة المضادة، حيث دأبت الأخيرة منذ اللحظات الأولى للمخاض الثوري في مصر، وانتفاضة الشباب في ميادين الحرّية تهتف "عيش حرية عدالة اجتماعية"، على تصفيتها لحمًا ودمًا، وملاحقة امتداداتها وتوسّعاتها والقضاء على كل محاولات تجذّرها بالوعي المجتمعي، وتمزيق أوصالها.

هذه المحاولات، كانت عبر دعاية النظام وآلته الإعلامية التي لم تكفّ عن تشويه الثورة ورموزها، فضلا عن تصدّي الأجهزة الأمنية ودورها الاستراتيجي في مقاومة المظاهرات والحراك الشعبي، عبر تخويف الشعب وقمعه، فبدأ دسّ عدد من الشباب المجندين في الخدمة العسكرية المصرية، ممن يعرفون بـ"التحرّيات العسكرية" التابعة للمخابرات الحربية، والتخندق داخل أي فعالية ثورية سواء كانت مظاهرة أو وقفة احتجاجية أو اعتصاما سلميا، لبدء أعمال شغب تجاه قوّات الأمن، حتى تكون فرصة جيّدة ومبرّرًا قويًا، لفض المظاهرة بالقوّة واستخدام العنف المفرط للقضاء عليها، واعتقال المشاركين فيها، وربط مستمرّ بين الحراك الثوري وتهديد الأمن المجتمعي وسلامة الدولة ومنشآتها، فضلًا عن انتشار الفوضى والتخريب والتعدي على قوى الأمن، ومن ثم سحب الشرعية عن الثورة وسلميتها ومشروعيتها في التغيير، وتصفية التعاطف الشعبي وتأليب الجماهير ضدّها واستقطابها لخطاب الدولة "العميقة" والنظام "القديم" وتحالف "المنتفعين" الجدد.

وهو الأمر نفسه الذي واجهه العمال وذوو الإعاقة وفئات المجتمع المهمّشة والمهدورة حقوقهم، ممن لم يجدوا رديفًا سياسيًا يعبر عن معاناتهم ويناضل من أجل إثباتها والحصول عليها، فكانت الثورة ملهمة لهم للخروج كنواة صلبة ومتماسكة، والاحتكاك المباشر مع قضيتهم دون وسيط سياسي وحقوقي.

تم وصف المحتجّين بأنهم "يعطّلون الإنتاج"، وبأن مطالبهم "فئوية"، ومحاصرتهم في هاتين الدائرتين بكل تدليس وافتراء، وتم دهس الطبقة الفقيرة ومحدودي الدخل، الحلقة الأضعف في المجتمع، واتهامهم بعدم أحقيتهم في مطالبهم وعدم شرعيتها، وأنهم محض فئات محدودة، وليست مطالب مجتمعية، في ظل نسيان فوري وتعتيم على مئات المصانع المغلقة والمتوقّفة عن العمل والأحكام القضائية على عدد من المصانع التي تم بيعها في سياسات الخصخصة، ويد الدولة "الباطشة" غير قادرة على انتزاعها من يد رأس المال ونفوذه القوي، ناهيك عن القيود على التصنيع والإنتاج، وسيولة الاستيراد العشوائي لمنتجات غير أساسية وشديدة الرفاهية في مجتمع يندرج فيه أكثر من 30 مليون مواطن تحت خط الفقر.

بينما يعاني اقتصاد البلاد من معدلّات تضخم شديدة، وهبوط في القيمة الشرائية للعملة الرسمية وعجز في ميزان المدفوعات، وثبات في الأجور وعدم ربطها بالأسعار، هذه التفاوتات الشديدة أدّت إلى فوارق طبقية واجتماعية ومعيشية غير معقولة، تتلخّص في تزايد منتجعات الفقر والعشوائيات، في قلب القاهرة "المتضخّم"، ونزوح وهجرة الأغنياء داخل كمباوندات، على أطراف القاهرة ومنعزلة داخلها، بخدمات وشركات حراسة خاصّة، تستغني فيها عن الدولة، حيث تظلّ بلا أثر واضح وتأثير خفي ومتواضع.

كان تدخل الجيش في 3 يوليو/ تموز، وعزل الرئيس محمد مرسي عن الحكم، في هذا السياق، حدثًا ضروريًا، للحفاظ على شبكة مصالحهم وتماسكها والإطاحة بكل من يهدّدها، سواء جماعة الإخوان المسلمين أو القوى الثورية، التي شاركت في ثورة يناير، وفي الإطار الذي أناقشه تحديدًا، لا أناقش حجم الأخطاء السياسية للإخوان في الحكم وتوظيف الثورة المضادة لها للإطاحة بهم، وكذلك عدم قدرة الثورة والقوى المدنية على تقديم بديل سياسي قوي، ينافس على السلطة ويحافظ على أهداف الثورة، وتقدّمها في مواجهة المؤسّسة العسكرية والدولة العميقة، لكن الأمر الذي يتبدى في هذه اللحظة تحديدًا وللمكاشفة الواقعية والتحليل الجذري، هو راهنية وماهية الدور السياسي الذي دأب رجال المجلس العسكري على تأديته في سبيل القضاء على الثورة وموقعهم الحقيقي منها.

سقط من ذاكرة الثورة وخطابها الدور المشبوه للمجلس العسكري، سواء بـ"كشوف العذرية" التي تمّ العمل بها مؤخرًا، أو بحماية للبلطجية وعدم تصدّيه -على أقلّ تقدير- لهم، وهو المكلّف بحماية البلاد وقتها، وكان يقف عند مداخل الميدان، عندما حاولوا اقتحام ميدان التحرير والتعّدي على المعتصمين بالأسلحة البيضاء والجمال والخيول، بينما ظلّت التحية العسكرية الذي أداها عضو المجلس العسكري للشهداء، على شاشة التلفاز بعد إعلان تنحية المخلوع مبارك، رمزية قويّة تؤدّي دورها السحري في طمس الحقائق والضغط على الأعصاب واقتسام رصيد شعبي وشرعية ثورية بدخولهم كطرف سياسي في ميدان الثورة للتفاوض والتوجيه ثم بعد ذلك الضبط والاحتكار وتصفية الخصوم، وهو الأمر الذي تكرّر في مواجهات لاحقة، بدأت تتسع دوائرها وتتكشف حقيقتها وتظهر أياديهم الخفية والمستترة عليها، وتتّضح بصماتهم المجرمة القاتلة التي باتت معروفة وسيئة الذكر ولا داعي لتكرارها.

وبحسب جلبير الأشقر في الجزء الأول من كتابه المخصّص عن الربيع العربي المعنون بـ"الشعب يريد"، بحث جذري في الانتفاضة العربية وتحليل هياكل الاقتصاد السياسي في المجتمعات العربية، فإنه يشير إلى نقطة مركزية تكشف عن الصلة الوثيقة لأسباب الردة الثورية وهزيمة التحوّل الديمقراطي، والتي ساهمت فيها التبعية السياسية للرأسمالية العالمية وشروطها، في فرضِ سياساتٍ نيوليبرالية نهبوية، نتج عنه انحسار استثمارات الدولة، وتراجع الاستثمار الخارجي وصعود ما سماه نخبة باتريمونالية (وهي شكل من أشكال الحكم، يتم التعامل فيه مع الدولة على أنها امتداد طبيعي للعائلة)، وهو ما أدّى إلى تقويض الأسس الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم عليها الأنظمة الاستبدادية العربية.

وهنا يمكن الكشف عن التوسّع الجلي لدور الجيش الذي برز منذ سيطرته على السلطة منتصف 2013، في ظل انحسار لدور رجال أعمال مبارك والشركات الكبرى الخاصّة، والتي جمعتها روابط قويّة بالرئيس المخلوع وتراجع نفوذها السياسي الحاد بعد يناير/ كانون الثاني 2011، وتنامي دور الجيش والشبكات المرتبطة به في النشاط الاقتصادي، حين أقدمت الشركات التابعة للجيش، سواء كانت مملوكة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية أو لهيئات عسكرية أخرى، على توسيع أنشطتها إلى حد كبير ودخول قطاعات اقتصادية جديدة، بما فيها الإسكان، وتربية الأسماك، وتصنيع اللقاحات وحليب الرضع، وحتى التعليم.

أدى هذا التوسّع إلى إعادة تشكيل شبكات المحسوبية التي كانت موجودة في عهد مبارك، بحسب ورقة بحثية للباحث عمرو عادلي، حيث تعاقد نظام السيسي بشكل أساسي ويكاد يكون حصريًا مع الشركات التابعة للجيش، عازلةً بذلك الشركات الخاصّة الكبيرة عن العديد من عقود المشتريات العامة.

وفي عام 2016، خصّص مرسوم جمهوري 16 ألف فدان لجهاز مشروعات أراضي القوّات المسلّحة، وهو الوكالة العسكرية المسؤولة عن إدارة الأراضي التي تملكها القوات المسلحة، من أجل تطوير العاصمة الجديدة في المستقبل.

ومنح المرسوم الجيش أيضًا حقّ تأسيس شركات تهدف للربح وبالشراكة مع شركات مصرية أو أجنبية خاصّة.

وجرى تحويل العقود العامة والأراضي المملوكة للدولة والمخصّصة لإقامة مشاريع استثمارية تدريجيًا إلى هيئات وشركات تابعة للجيش، ما يزيد حصصها السوقية، مع إعطاء الشركات الكبرى لرجال الأعمال بعض المشاريع الكبرى.

ثمّة غياب للقوى السياسية ذات القدرة التنظيمية لتجسيد القطب الثوري والذي يكون بإمكانه قيادة تحول اجتماعي – سياسي، وبالتالي، فإن الصدام بين معسكري الثورة المضادة أمرٌ حتمي كما حدث في مصر، وذلك لأن ثورة مصر، "نجحت فقط بالإطاحة بجزء هام من المكوّن السياسي لـ "نخبة السلطة"، علاوة على فصيل "الرأسمالية المحدّدة سياسيًا" الأوثق صلة بالأسرة الحاكمة السابقة، لكن البنية الطبقية الرأسمالية المسؤولة عن الانفجار الاجتماعي التي هي مزيج من برجوازية الدولة وبرجوازية السوق في إطار يستلهم النيوليبرالية - نجت من الزلزال، مثلها في ذلك مثل النواة الصلبة القمعية للدولة، المكونة من الجيش والجسم الرئيسي للقوات شبه العسكرية". كما يصفها جلبير الأشقر.

المساهمون