اليمن.. جامعيات في ساحة المواجهات

اليمن.. جامعيات في ساحة المواجهات

09 ابريل 2017
(في العاصمة صنعاء، تصوير: محمد هويس)
+ الخط -

لم تكن ريم عبد الله نعمان  تعلم أن فرحها باستئناف التعليم في جامعة تعزّ قبل أشهر سيتحوّل إلى حزن ذات يوم. وأن رصاصة ستخترق ساقها اليُسرى أثناء عودتها من الجامعة، على متن باص أجرة، كان يقلها هي وأربع من زميلاتها، واحدة منهن غادرت الحياة بإحدى الرصاصات، في حين كُتبت لريم الحياة والعيش على ذكرى إصابتها.

تقول ريم لــ "جيل": "ذات يوم كنت عائدة من الجامعة، أنا وأربع من زميلاتي، وفي جولة بير باشا تحديدًا، حدثت اشتباكات عنيفة، كان هنا مقاتلون يطلقون الرصاص من اليمين وآخرون يردّون من اليسار ونحن داخل الباص في وسط الاشتباكات، اخترق الرصاص الباص، واحدة أصابتني في رجلي، ورصاصة أصابت زميلتي في الرأس، أُسعفنا للمستشفى، زميلتي توفيت وأنا خضعت للعلاج".

تتابع ريم نعمان حديثها: "عند خروجنا من البيت، كان لا بدّ علينا من توديع أهلنا الوداع الأخير في كلّ مرّة، لأننا قد نذهب إلى الجامعة ولن نعود إلى المنزل، صرنا نقرأ الفاتحة على أرواحنا قبل كل خروج، لأنه لا يمرّ يوم تقريبًا إلا وحدث شيء؛ إما طريق مقطوع، أو مظاهرات، أو اشتباكات، والمصيبة أنه كلّما حدثت اشتباكات في مكان قريب من الجامعة، لا يحاولون تأمين الجامعة، بالعكس، يتوافد المسلّحون، والسيّارات المصفحة، ويقطعون الطرقات وتستمرّ المواجهات لساعات طويلة، لدرجة أن الطالبات، والطلاب، لا يجدون منفذًا للعودة، ونظل في وسط المواجهات والقذائف، أو نضطر للهرب سيرًا على الأقدام لمسافات كبيرة، تحت الرصاص والأعيرة النارية، وإذا وجدت الطالبات بالصدفة باصًا أو وسيلة نقل أخرى، فلا يتوقّف إلا لقاء مبالغ كبيرة استغلالًا للفرصة، وقليلات هنّ الطالبات القادرات على الدفع".

رغم ما تعرّضت له ريم، إلا أنها عادت إلى استئناف دراستها، وتحمّل المعاناة والمخاطر، هي وآلاف من الطالبات الأخريات، وعن سبب هذا الإصرار والتحدّي والمغامرة من أجل مواصلة التعليم وسط موت محقّق، قالت ريم: "قرّرت  أن أعود إلى الدراسة، لأنه بذهابي إلى الجامعة؛ اكتشفت أن الذي يخرج بين المواجهات ويرى الوضع بنفسه، يقلّ خوفه وضغوطاته النفسية، على عكس جلوسي بالبيت في حالة نفسية معقدة، خوف، وأصوات قذائف، وتفكير وترقّب طول الوقت للمجمهول، وضغط نفسي غير عادي، أما الآن وبمواصلة دراستي تغيّرت حالتي، أدخل وأخرج وأشغل نفسي بالقراءة والاطلّاع، حتى أنه الآن لو وقع صاروخ بالقرب مني أو قصف، لم أعد أخاف مثل السابق".


عودة للتعليم وسط الرصاص
تُعتبر جامعة تعزّ، الواقعة في منطقة حبيل سلمان، أكثر الجامعات تضررًا، فخلال فترة الحرب، تحولت الجامعة إلى ثكنة عسكرية، تارة مع مليشيا الحوثي وتارّة أخرى مع المقاومة الشعبية، ولكن بعد عودتها إلى المقاومة تمكّنت رئاسة الجامعة من استئناف العملية التعليمية قبل أشهر.

آلاف من الطلاب والطالبات، عادوا للدراسة بصورة غير متوقّعة، الجميع تقريبًا ممن التحق بالجامعة ويقطن في المدينة عاد للدراسة، إضافة إلى من كانوا نازحين أو نازحات عادوا إلى مواصلة التعليم بشكل أو بآخر.

تقول الناشطة الحقوقية وعضو مؤتمر الحوار الوطني، بلقيس العبدلي، "بين نيران الحرب المحتدمة، تناضل المرأة في تعزّ من أجل استمرارها في التعليم، فبرغم الحصار المطبق على المدينة إلا أنّنا لاحظنا الكثير من الفتيات اللواتي نزحن مع أهلهن إلى أطراف المحافظة وقراها، أو إلى مدن أخرى، اضطررن للعودة بمفردهنّ لاستكمال التعليم مرورًا بكل النقاط والحواجز، وما تمثّله من مخاطر، بالإضافة إلى العودة للسكن في المدينة بعيدًا عن الأسرة والأهل متحدّيات الوضع الأمني والاقتصادي الذي يعصف بالبلد".

وتضيف العبدلي: " نتيجة إغلاق جامعة تعزّ عند بدء الحرب، حُرم ما يفوق الـ 40 ألف طالب من التعليم الجامعي، كما حُرم حوالى 10 آلاف طالب من دراستهم في المعاهد التقنية، ولذا بمجرّد إعادة فتح بوابة الجامعة، توافد إليها الكثير من طلابها وكان للفتيات حضورٌ لافت رغم شبح الموت الذي قد يظهر مع كل قذيفة تصل إلى مدينتهن، لتحصد مزيدًا من الأرواح".


رصاصات تتسلّل إلى قاعات الدرس
في الحرب تمتلئ الشوارع، والأزقّة، بعبوات الرصاص، وشظايا القذائف والألغام، ولكن أن تعجّ بالطلبة والأطفال، فهذا غير مألوف إلا في تعزّ، جنوب غرب اليمن. تعزّ التي وجدت الفتاة الملتحقة بالجامعة نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما البقاء في المنزل، وإما الذهاب إلى الجامعة وسط الرصاص. وجميعهن تقريبًا اخترن هذا الخيار الأخير.

كثيرة هي الإصابات بالرصاص والقذائف المسجّلة في قوائم الطالبات، طبقًا لحديث الطالبات اللاتي تحدّثن مع "جيل"، وطبقًا لناشطين حقوقيين، وصحافيين، فهناك في كشوفات الرصد عشرات من الطالبات الجامعيات قُتلن بالأعيرة النارية، وعشرات جرحن وبأشكال مختلفة.

داخل الجامعة، تعيش الطالبات مشاهد رعب بشكل يكاد يكون يوميًا، حيث يؤكّدن أن الجامعة يطاولها القصف باستمرار، وحدث أكثر من مرّة، أن سقطن داخل قاعات الدرس بين قتلى وجرحى.

تقول الطالبة ريم: "داخل الجامعة الوضع غير آمن، بشكل يومي نسمع صوت رصاص وقذائف قريبًا من الجامعة، وحدث فعلًا أن طاول هذا الرصاص قاعات الدرس، وأذكر أن أكثر من سبع طالبات سقطن وجُرحن برصاصات مجهولة لا نعرف مصدرها".

يقول الناشط والصحافي، إبراهيم الشرعبي: "رغم الظروف والعقبات الكثيرة التي تبدو محشورة أمام طالبات تعزّ، إلا أنهن يتحدّين كل هذه العقبات، ويكسرن حواجز الخوف ويذهبن إلى تلك الجامعة التي أصبح مبناها شبه مدمّر، فطرفا النزاع وخصوصًا مليشيا الحوثي التي لم تكتف بتدمير الجامعات في تعزّ فقط، بل زرعت الألغام في محيطها، وأعتقد أن أي فتاة تذهب إلى الجامعة ولا تعود إلى المنزل، تكون قد لقيت مصرعها إما بلغم أرضي أو بطلق ناري أو بقصف عشوائي، ولهذا لا فرق بين من يتقاتلون في الجبهات، وبين فتيات يذهبن إلى جبهة العلم والتعلم، الفتاة تقاتل، وتكافح من أجل حصاد العلم، وهم يتقاتلون من أجل تدمير الوطن وإنهاء التعليم".


5 ساعات سيرًا على الأقدام
الذهاب إلى جامعة تعز، لا يكون عبر باصات النقل دائمًا، بل أحيانًا تضطر الطالبات للذهاب سيرًا على الأقدام في معظم الأيام، وذلك إما بسبب الاشتباكات، وإما بسبب ظروف أهالي الطالبات المعيشية، فالناس في تعزّ يواجهون أكثر من حرب، فهناك حرب بالرصاص، وهناك حرب أخرى، تمثلت خلال الستة الأشهر الأخيرة، بحرب انقطاع الراتب.

من جهتها، تقول طالبة قسم الفيزياء، خولة قائد حمود، في حديث إلى "جيل": " أعرف زميلات يأتين إلى الجامعة سيرًا على الأقدام ومن أطراف المدينة، وأحيانًا تستغرق عودتهن إلى البيت 5 ساعات وقت الظهيرة، يخرجن من الجامعة الواحدة ظهرًا ويصلن إلى البيت في السادسة مساءً، وذلك بسبب الاشتباكات المستمرّة، لأن معظم المناطق التي تعبرها الطالبات هي جبهات ومناطق اشتباكات مستمرة".

وتؤكّد خولة أنه "لا يمرّ يوم أو يومان بدون اشتباكات وقصف، ولم يكن هناك أسبوع عرفت فيه هذه المنطقة أي هدنة، فتعزّ طوال أيّام السنة، تعيش حربًا واسعة، وعندما نسمع اشتباكات وقت الظهيرة، لا نملك إلا الدعاء لزميلاتنا اللاتي نعرف أنهن يعبرن من مناطق اشتباك، ونظل نترقّب عودتهن أو سماع خبر إصابة أو مقتل إحداهن".

وتضيف المتحدثة أن الناس هنا في تعزّ يمرّون بحالة مادية صعبة، بسبب عدم استلام المرتّبات وانعدام الأشغال، إضافة إلى أن الجامعة لا تُحاول مساعدة الطلاب والطالبات بالباصات أو تخفيض الرسوم، أو أي شيء من هذا القبيل، مع ذلك تصّر الطالبات على مواصلة التعليم والذهاب إلى الجامعة رغم الصعوبات البالغة".


نزوح وعودة مؤقّتة
في الطرف الآخر من المدينة إلى الشرق، تواجه طالبات الجامعة الظروف نفسها، فهناك وفي منطقة الحوبان، كانت بعض الجامعات الخاّصة، قد استأنفت الدراسة، ولكن بسبب اشتعال المواجهات المستمرة مجدّدًا، تضطر بعض الطالبات، إلى النزوح أسبوعًا، وإلى العودة إلى الدراسة أسبوعًا آخر.

تقول كريمة محمد أحمد، طالبة حاسوب في إحدى الجامعات الأهلية: " أنا أتواصل مع زميلات لي باستمرار، وهنّ ممن يدرسن في جامعات أهلية في تعز، وباستمرار يقلن لي إنهن يدرسن أسبوعًا أو أسبوعين، وينزحن لفترة أسبوع أو أكثر بعدها إلى خارج المدينة بسبب اشتداد المعارك والقصف، وعندما أسمع منهن التفاصيل أشعر بوجع وقهر على الحال الذي أوصلتنا الحرب إليه".


اختطاف وقتل
ليست الإصابات برصاص الحرب هي كل ما تتعرّض له طالبات جامعات تعزّ، بل أيضًا هناك تأكيدات على تعرّض طالبات للاختطاف، من شوارع المدينة من قبل مجهولين.

تؤكّد الطالبة في قسم التربية بتعز، ريم نعمان، في حديث إلى "جيل"، أن هناك خمس حالات اختطاف سُجّلت في جامعة تعز، وهي حالات اطّلعت عليها بنفسها، حيث تقول إن واحدة من طالبات الجامعة تعرّضت للاختطاف وهي عائدة من الجامعة إلى منزلها الواقع في شارع جمال وسط المدينة، ووجدها أهلها أسبوعًا بعد عملية الاختطاف، وهي تعيش اليوم صدمة نفسية، الأمر الذي دفع بأهلها إلى ترك المدينة، ومن ثم المغادرة باتجاه صنعاء.

حالتان من بين الخمس، تؤكّد ريم أن أهلهما وجدوهما مقتولتين ومرميتين في شارعين من شوارع المدينة، وهذه حالات مفزعة، وأثارت غضبًا وجدلًا شعبيين كبيرين، حسب تعبير الطالبة ريم، بل شكّل الأمر صدمة لدى طالبات الجامعات ولدى أهلهنّ.

أما مصير الحالتين الأخيرتين، وطبقًا لريم، فلم يتم معرفة مصيرهما حتى الآن، وهما مختفيتان منذ ذلك الوقت ولا يعرف أهلهما عنهما شيئًا.

المساهمون