اقتتال ثوار سورية.. كل فصيل على هواه (3- 3)

اقتتال ثوار سورية.. كل فصيل على هواه (3- 3)

13 مارس 2017
الفصائل المسلحة بين داء التغلب ومكاسب حمل السلاح (Getty)
+ الخط -

إذا كان لجبهة الجولاني نصيب الأسد في داء التغلب الذي ينخر المستوى العسكري من الثورة السورية منذ أعوام، ولا يبدو أنه في طريقه نحو الزوال، فإن سائر الفصائل الثورية لم تكن بريئة منه تمامًا ولا بمنأى عن عدواه، وإن كانت المنازعات بينها أكثر تعقيدًا وأقل وضوحاً من تلك التي تكون جبهة فتح الشام طرفًا فيها، والعلة في عموم هذه "البلوى" أن التغلب أو الاحتكام إلى القوة المادية يمثل النتيجة الحتمية عندما يكون دور السلاح محوريًا في حياة حامله ومركزيًا في عقله ووعيه.

وهذا يحيل إلى داء آخر قد يكون أعمق جذورًا من التغلب، وهو تحول حمل السلاح من وسيلة اضطرارية للدفاع عن النفس أمام الطغاة المجرمين إلى غاية بحد ذاتها، لما تجلبه من مكاسب لا حد لها.

تؤمن الفصائل الثورية، أو معظمها على الأقل، بعقلية التغلب بشكل أو بآخر، وأكثرها مارس منهج التغلب سواء جزئيًا أو كليًا، ولهذا فإننا شهدنا اعتداءات متكررة من بعضها على بعض، سواء كان السبب وجيهًا أو واهيًا. ومن المفارقات المؤذية التي تطعن بمصداقية وثورية الكثير من قادة هذه الفصائل؛ أنها تمتلك سجونًا تزج فيها معتقلين لديها من الفصائل الأخرى ومن المدنيين، بعضهم أبرياء ليسوا سوى رهائن، والبعض الآخر قد يكون متهمًا بالفعل في قضايا تستحق المحاسبة.

لكن من أين استمدت الفصائل صاحبة السجون التفويض الذي يسمح لها بممارسة هذه الصلاحيات؟

إن أي جهة تحاول فرض نفسها كشرطي وقاضٍ على الآخرين بدون تفويض اجتماعي حقيقي فهي إنما تنصب نفسها كحاكم يستمد سلطته من قوته وقهره للآخرين، مهما زعمت أنها لا تمارس الحكم ولا تنازع عليه، ما دامت تنفذ إرادتها المتعلقة بالشأن العام بالقوة لا وفقًا للمعايير والأعراف والآليات المتوافق عليها.

في غوطة دمشق الشرقية، اقتتلت فصائل ثورية لأسباب معقدة ليس من السهل القول فيها إن طرفًا حاول التغلب على آخر فحسب، لكن نستطيع أن نشير إلى ملامح رئيسية، فقد اتفقت جميع فصائل الغوطة في عام 2013 باستثناء جبهة النصرة وأحرار الشام على ما سمي بالقيادة العسكرية الموحدة للغوطة، وكان الراحل زهران علوش قائد جيش الإسلام على رأسها، وأبو محمد الفاتح، قائد الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام حينئذ، نائبًا له، واتفقت الفصائل أيضًا على مجلس القضاء الموحد وعهدت برئاسته إلى الشيخ خالد طفور، أحد قادة أجناد الشام.

الفصيلان متباينان من ناحية الخلفية الفكرية، فجيش الإسلام ينتمي بالكامل إلى المدرسة السلفية العلمية بمرجعيتها المعروفة (ابن باز وابن عثيمين والألباني) وهي سلفية تؤمن رسميًا بالتغلب كأحد طرق الوصول إلى الحكم وتعادي الثورات بطبيعتها في الأصل، بينما ينحدر بعض قادة أجناد الشام من المدرسة الإخوانية وبعضهم ينتمي إلى المشيخة الشامية التقليدية، وبين السلفية من جهة والإخوان والمشيخة الشامية من جهة أخرى خلاف فكري ومنهجي كبير.

بدأت المشاكل مع قرار جيش الإسلام بقيادة الشيخ زهران علوش القضاء على فصيل "جيش الأمة" الذي كان يضم العديد من الكتائب المحلية في الغوطة، موجهًا إليه تهم الفساد، ورغم أن أطرافًا عديدة تتفق مع جيش الإسلام على اتهام "جيش الأمة" بالفساد إلا أن زهران علوش لم يحصل على تفويض من أحد لممارسة القوة بمداهمة مقار هذا الفصيل واعتقال قادته، فقد خرج رئيس القضاء الموحد طفور بعد أيام بتصريح كشف فيه أن القضاء لم يكلف جيش الإسلام بهذا الأمر، ومع تحرك أهالي المعتقلين في سجون جيش الإسلام نحو التظاهر ضده سارع طفور إلى تأييد المتظاهرين، الأمر الذي شكل شرارة صراع آخر سيخوضه جيش الإسلام مع الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام.

الصراع الثاني أدى إلى محاولة اغتيال طفور والعديد من قادة الأجناد لاحقًا، ليتطور الموقف إلى اندماج أجناد الشام مع أحد أكبر فصائل الغوطة وهو "فيلق الرحمن" الذي كان يتمتع بعلاقات متميزة مع جيش الإسلام، لكن هذه العلاقات انقلبت مع حصول هذا الاندماج إلى أسوأ حالاتها وتحولت إلى اقتتال، الأمر الذي استغلته جبهة النصرة تحت مسمى "جيش الفسطاط" فقامت بالتحالف مع الفيلق ضد الجيش، وبذلك استعرت نيران الصدام وتعقدت أسبابه، ولكن السبب الأول الذي لا يمكن طمسه قطعًا –وهو محور هذه السلسلة بجميع أجزائها– هو التغلب وممارسة صلاحيات الشرطي والقاضي بدون تفويض شرعي، من قبل ثوار مسلحين كان الأحرى بهم حجب سلاحهم إلا عن جيش الطاغية الذي اضطر الجميع أصلًا لحمل السلاح.

ورغم أن ما يدعو للتفاؤل أن الطرفين توصّلا إلى اتفاق يقضي بإنهاء النزاع ورد الحقوق إلى أهلها، إلا أن ما يدعو إلى التشاؤم أن اتفاقًا كهذا لم يكن ليحصل لولا تدخل دول إقليمية ودخولها في وساطة وتحملها الأعباء المادية له.

ولأسباب أخرى، شهدنا اقتتالًا مشابهًا في درعا، مهد الثورة السورية على مدى عامين بين فصائل الجيش الحر وبين لواء اليرموك وجيش خالد بن الوليد، الفصيلين اللذين بلغ بهما الحال أن بايعا تنظيم الدولة "داعش" ليستقويا به على فصائل الجيش الحر التي تنضوي تحت لواء "الجبهة الجنوبية"، وأدى هذا الاقتتال إلى تجميد جبهة درعا وتضرر المدنيين المقيمين في خطوط التماس بين الطرفين، كما أدى رفقة أسباب أخرى كالنفوذ الذي مارسته غرفة الموك على فصائل الجبهة الجنوبية إلى تآكل المناطق المحررة لمصلحة الأسد، وما زالت المشكلة قائمة حتى الآن.

المساهمون