كرداسة .. ذاكرة المحنة في مصر

كرداسة .. ذاكرة المحنة في مصر

10 مارس 2017
(مداهمات في مدينة كرداسة، تصوير: محمد حسام)
+ الخط -
ساهمت الآلة الإعلامية في توظيف صورة غير دقيقة للأحداث، بل ومفتعلة في بعض الأحيان حول مدينة كرداسة الواقعة جنوب القاهرة، منذ بيان عزل محمد مرسي، في يوم 3 يوليو/ تمّوز 2013، وفض اعتصامي رابعة والنهضة، اللذين تسبّبا في حدوث عدّة اشتباكات دموية، تعدّدت أطرافها وخلفياتها سواء كانت طائفية أو بين الأهالي وأجهزة الأمن، شهدتها عدّة محافظات مصرية، وقد حصرها موقع "ويكي ثورة"، بنحو 295 حادثة اشتباك.

الطابع الثأري الذي شهدته كرداسة من طرف مجموعة ملثمين يحملون قذائف صاروخية "آر بي جي"، عقب قراري الفض في 14 أغسطس/ آب 2013، في ميداني رابعة العدوية والنهضة، سجّل هجوم ملثّمين على قسم شرطة المدينة، وسقوط ثلاثة عشر قتيلًا، والتمثيل بجثثهم، نسج حولها صورة ذهنية مخيفة وغير آمنة، كثّفتها وسائل الإعلام وقدّمتها على اعتبارها استثناءً، تحتلها الجماعات الإرهابية المسلّحة ومعقل الإخوان المسلمين وتسعى إلى تحريرها.

وبالرغم من وقوع 68 حادثًا مشابهًا لما وقع في قسم شرطة كرداسة، تعدّدت في الصعيد والدلتا، حيث سقط في الفيوم أربعة عناصر من أفراد الأمن، في اشتباكات حول محيط قسم الشرطة بها، إلا أن كرداسة انفردت بالتغطية الإعلامية الأبرز والمتواصلة، وظلت ترافقها حتى بعد ثلاث أعوام من سقوط الإخوان، كما لا تكف الحملات الأمنية المشدّدة عن مداهمة المنازل، واعتقال المئات منهم.

لدى أبناء كرداسة شعور طاغ بالظلم، يحتلُّ ذاكرتهم ويُبرزُ تصدّعًا في علاقاتهم مع الحكومة، يتجسّدُ في معاناتهم من التهميش وندرة الخدمات، ويمتدُّ هذا الشعور الذي لا يفوّت مناسبة، إلا وظهر في حركات التعبير عن الاضطهاد إلى عهود سياسية سابقة.

خلفية هذه النظرة نحو كرداسة تعود إلى الستينات، كما يروي أبو تقي، أحد الأعضاء السابقين في تنظيم الجهاد المصري، مع الجيل الأيديولوجي الأوّل للإخوان المسلمين، والذي عُرف بتنظيم 1965، وترأّسه سيّد قطب الذي ساهم في توجيههم الفكري وإعدادهم تربويًا وسياسيًا وتنظيميًا، وقد صادف وجود اثنين من قياداته ينتمون إلى كرداسة، حيث كان المخطّط من وراءه اغتيال عبد الناصر وتدبير انقلاب ضدّه.

ويشيرأبو تقي، إلى أنه عندما اكتشف عبد الناصر هذا التنظيم بعد قراءته لكتاب معالم في الطريق لسيد قطب، وأحسّ بحدسه السياسي والأمني أن هذا الكتاب وراءه تنظيم ينبغي الكشف عنه، وبدأت الأجهزة الأمنية تتحرّى ذلك؛ فدهم عناصر من المخابرات الحربية بملابس مدنية منزل الشاب سيّد النزيلي، وهو أحد أعضاء الإخوان وتنظيم 65، للقبض عليه لكنهم، لم يجدوه فأخذوا أخاه وزوجته رهائن، وجرى التنكيل بهما ومحاصرة القرية.

لكنّ الأهالي لم يعرفوا هويّة هؤلاء الرجال ممّا دفعهم للاشتباك معهم بالطوب والحجارة متصوّرين أنهم "لصوص"، فسقط أحدهم مغشيًا عليه، وعندما عاين شاويش القرية بطاقته عرف أنه أحد رجال الشرطة العسكرية فصاح: "خربت ياكرداسة .. مصيبة وحلّت عليكم يا أهل كرداسة. إن هؤلاء ليسوا لصوصًا. إنهم من رجال الشرطة العسكرية".

وعلى مدار ثلاثة أيّام، انتهكت المدينة بصورة شديدة القمع والانتقام، بدأت بالقبض على عمدة القرية وشباب الجماعة، وأُعلنت حالة من فرض حظر التجوّل، وسيق إلى المدرسة الإعدادية كل من يتجاوز عمره 12 عامًا، حيث اتخذتها الشرطة العسكرية مقرًا لها فى وسط القرية، وحوّلتها إلى ساحة تعذيب، قبل أن تنقلهم إلي السجن الحربي. بحسب ما ترويه أدبيات الجماعة على لسان مدوّن الحادث جابر رزق في كتابه: "مذابح الإخوان في سجون عبد الناصر".

وتعدّ مرحلة سيّد قطب تدشينًا جديدًا في بناء جماعة الإخوان المسلمين على مستوى تنظيمي وعقائدي أكثر تشددًا ومغلقًا على ذاته، يميّزها بمنهج تثقيفي خاص، يعتمد مقولاتٍ صريحة ودقيقة، حول الأهداف والأفكار، صاغها في كتابه الشهير: "معالم في الطريق". والذي سيصبح فيما بعد "مانفيستو" الجماعات الدينية المسلّحة التي تعتمده كمرجعية تؤسّس للعنف والتكفير، على أساس ديني في مواجهة الدولة ومؤسّساتها وقوانينها الوضعية.

وبعكس براغماتية العمل المفتوح لحسن البنا، توطّنت أفكار سيّد قطب حول مفاهيم الحاكمية والجاهلية، وتنشئة جيل جديد مستعل بالإيمان الحقّ عماده "العصبة المؤمنة" و"الجيل القرآني" و"العزلة الشعورية"، يترقّب الموت والتضحية في سبيل إحياء جديد للدين في عالم يخلو من الإسلام. وهو ما ظل يحكم مؤشّر علاقتها بالسلطة وممارستها للسياسة وامتداداته في أجيال لاحقة، حتى المرشد الثامن للجماعة، محمد بديع.

وقد تقاطعت الأطروحة القطبية وشموليتها في ظل استئصال الفترة الناصرية للإخوان، وسجن وهجرة قياداتهم خارج البلاد، حتى انتهى الحال في ظل هذا الانشقاق الفكري مع محنة تنظيم 1965، إلى ولادة التيّار القطبي الذي أعاد بناءً هوياتيًا للجماعة، في مواجهة المشروع التحديثي للدولة الناصرية، ينفصل عن قيم الدولة وكل التنظيمات المرتبطة بها، باعتبارها خارجة عن قيم الإسلام الصحيح.

تميّزت كرداسة والقرى المجاورة حولها، مثل ناهيا واطفيح وكفر غطاطي، التي شكّلت ظهيرًا قرويًا لمدينة القاهرة بإنتاج نخبة إسلامية راديكالية، وبزغ منها أسماء مهمّة في الحركة الإسلامية، مثل عبود وطارق الزمر القياديين في الجماعة الإسلامية، ومحمود غزلان وعصام العريان، القياديين بالإخوان.

ومثلما خرج من صفوف الطلبة وموظفي الدولة رموز الحركة اليسارية والناصرية، نشأ داخل هذا الواقع الريفي وبين وُرش حياكة النسيج، جيلٌ إسلاميٌ يعيش في متلازمة فكر المحنة، ممن وجدوا أنفسهم في صراع سياسي وأيديولوجي، مع دولة عبد الناصر، التي استهدفتهم ولاحقتهم تحت أقبية السجون.

ثمّة مبالغات عرّجت على تفاصيل الرواية كحال كل الحكايات المستعادة، في المتخيّل الشعبي، وذلك لا ينفي وقوعها، لكنها نُسجت بتأويلات خاصّة وتمّت استعادتها بإضافات وأحداث مبالغة تضاعف من تأثيرها.

وهو ما يبدو بوضوح في ما يرويه جابر رزق في كتابه بشكل أدبي مؤثّر. فيقول أن كرداسة: "عاشت ما يقرب من ثلاثة أشهر يسيطر عليها الإرهاب، وأُغلقت المساجد ومنع الأذان وعُطّلت الصلاة داخل المساجد، وفرضت الحراسة في كل شارع وحارة حتى نفد الماء والطعام وجاعت البهائم وجفّ لبن الأمّهات ومات الأطفال الرضع".

يعتبر محمود، الذي انتقل بعد ثورة 25 يناير من عضوية الإخوان الذي انتسب لها بالتبعية لوجوده في إحدى العائلات المنتمية للجماعة إلى حزب الدستور، أن هذه القصة تطبع المدينة بشعور غائر بالجرح الذي يميز ذاكرتها المحلية بهذه المحنة وترتبط بها، لكنه ينفي العديد من المبالغات التي رافقت رواية هذه القصة وساهمت في بقائها وانتشارها واستغلالها،عوامل الانتماء العائلي وقيم الترابط في هذا المجتمع الريفي. مثل ترديد إشراف وزير الحربية وعبد العظيم فهمي وزير الداخلية وعدد من رموز الدولة الناصرية بمعاينة المدينة وتهديد أهلها "بتدمير كرداسة ومحوها من علي الخريطة". فضلا عن استثناء أهلها من وظائف في الجيش والشرطة وهو ما يخالف حالات عديدة تنتسب لهذه الأجهزة.

ينفي هذا التهميش عن كرداسة في عهد عبد الناصر بعض أبنائها، إذ عرفت بناء مدينة أبو رواش الصناعية، وهي منطقة شبه صحراوية تابعة لها، حيث تتميّز بوجود ذلك الشارع السياحي المشهور بالمدينة والذي يعدّ مزارًا كبيرًا للسيّاح الأجانب والعرب، وبه وُرش ومشاغل لحياكة النسيج وبيع السجّاد الذي تشتهر به، وهو ما يضمن لها حالًا أفضلًا، عن مراكز قروية أخرى شبيهة تحوّلت إلى عشوائيات شديدة الفقر.

المساهمون