"ثورة مصر" لعزمي بشارة.. على مسافة نقدية (2 -2)

"ثورة مصر" لعزمي بشارة.. على مسافة نقدية (2 -2)

17 فبراير 2017
(من مشاهد ثورة 25 يناير 2011، تصوير: خالد دسوقي)
+ الخط -

يمضي المفكر العربي عزمي بشارة في المجلّد الثاني من كتابه "ثورة مصر.. من الثورة إلى الانقلاب"، إلى وجهته الأساسية التي شرع منذ المجلّد الأول في بحثه عنها؛ وهي إنتاج معرفة تاريخية علمية، حول الربيع العربي في نسخته المصرية، وفضّ العديد من التباساته وتثبيت بوصلة الأحداث وتحديد قوانينها، وتتبع العوامل المؤثرة فيها والقوى الرئيسية داخلها.

يظل سؤالًا ملحًّا على امتداد صفحات الكتاب، يفرض ذاته في عدة مواقع، حول أسباب تعثر التحول الديمقراطي في مصر، وأسباب تغلب قوى الثورة المضادة، ونجاحاتها، وانشقاق قوى الثورة على صيغة مرضية، تتفق مع المبادئ الديمقراطية.

يعد ذلك الجزء هو الأكثر صعوبة ليس لراهنية موضوعاته فقط، لكن لعدم توافر الأدلة التاريخية والوثائق والتأكد من أصالتها، التي قد تكشف عن جوانب الثورة المستورة والخفية، غير المعلنة، ما يمكّن الباحث أن يقدم الأحداث والوقائع التاريخية كما كانت، وطرح أسئلة إبستمولوجية تثمر معرفة تاريخية حقيقية، بدون إعادة تنظيمها وترتيبها في سياقات تتفق وأهدافها الأيديولوجية، وتعتمد الحقيقة التي تعزز من موقفها السياسي ومكانتها التاريخية وتستبعد ما يخالف ذلك.

وبالتالي، كان الاعتماد، كما يشير المؤلف، على المادة الخام، المتوافرة صحافيًا والموثقة عبر المواقع الإلكترونية، بعد مقارنتها والتحقق منها، من خلال باحثين ومراقبين مشاركين في إعداد الكتاب، وإعمال العقل التحليلي والمقارنات وفهم السياقات والاستعانة بمناهج وأدوات البحث التاريخية وعلوم الاجتماع وتحليل الخطاب، ليبني من خلالها رؤية قابلة للتماسك.

"قصة الثورة المصرية هي قصة أمل كبير انتهى إلى مأساة، وحلم أجيال استحال كابوسًا". بالرغم من التكثيف الشديد في تلك العبارة التي أوردها بشارة، وحمولتها الأدبية الصريحة، لكننا نقف عند ذلك التناقض الموجود في رحم الثورة، وقابليتها لسيناريوهات ومخاضات كثيرة، في ظل تعاطيها مع المعطيات المطروحة في الواقع السياسي وأوزان القوى السياسية، داخلها، التي تحسم عبر خياراتها مآلات تلك الثورة ونهاياتها، والتي لا تعكس بحال، كما يشير نفسه لذلك؛ "أي ضرورات تاريخية وحتميات".

ما إن بدأ الكابوس يحوم منذ تنحي مبارك في 11شباط/فبراير 2011، وتسلم الجيش بقيادة المجلس العسكري الحكم، خلال الفترة الانتقالية في مصر وإدارته حكم البلاد، إلا وكانت تعمل بدأب كل محاولات تصفية الثورة، وتشويهها، وإجهاض التحول الديمقراطي من أساسه.

ساهم في ذلك عدم طواعية القوى الثورية لهذا التحول ومقاومة مناخ الاستقطاب الهوياتي، الذي مزق الثورة، والشروخ الطائفية بين القوى السياسية المدنية والإسلامية، من دون ترميم كل ذلك الشقاق، بهدف بناء تنظيم سياسي ينهل من مبادئ الثورة وثقافتها، التي عززت ورفعت قيم الديمقراطية والمواطنة التي كان بإمكانها كسر النظام القديم.

في هذا السياق، يورد صاحب "فلسطين وثقافة الحرية"، خشية الثوار منذ شرعوا في بناء أول منصة بميدان التحرير في 29 يناير، ووقف كل محاولات السياسيين التقليديين من اعتلائها ومخاطبة الجماهير من خلالها، وحل ائتلاف شباب الثورة بعد تنحي مبارك. وهو ما يصفه بـ"طوباوية" الثوار، التي أنتجت عصبيتها الخاصة ولم تعد ترضى إلا بـ "اللاسياسة" سياسةً لها.

فضلا عن ذلك، ظلت قوى الثورة تخشى العمل السياسي المنظم وترفض حل نفسها في بديل سياسي يتبنى أهدافاً واضحة للثورة، وتماهت مع الحالة الثورية في عفويتها ونقائها، ولم تتمكن من خلق قيادة لها، ورفضت السعي نحو السلطة والمشاركة فيها. فظلت تمارس العمل السياسي بأدوات ما قبل يناير المعتمدة، والتي اقتصرت على التظاهر والاحتجاج في الشوارع والميادين لتلبية مطالبها، خصوصًا في ظل تنامي التذمر من سوء الأحوال الاجتماعية والطبقية وتراجع توقعات المواطنين وخيباته في وعود الثورة.

ذلك ما أدى إلى فقدان الثورة لشعبيتها، واستغلال الجهاز الأمني في حينها إحداث أشكال من الفوضى والتدمير والاشتباكات، لبث الخوف في نفوس المصريين والربط بين المظاهرات والفوضى وفقدان الأمن وإسقاط الدولة وتمكن من اختراق قوى الثورة وتشتيتها والتحالف مع القوى الإسلامية والنظام القديم لإفشال الثورة.

تشير إحدى فرضيات الكتاب في سياق فهم مآلات الثورة، عبر تحليل طبيعة واحدة من القوى المهمة والمؤثرة في تطورها، وهي جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها الأكثر تنظيمًا وتحوز حاضنة اجتماعية وشبكة تواصل شديدة التأثير والفاعلية سواء بين أفرادها ومجموعاتها، وبينهم وبين المجتمع. فيقول: "من غير الممكن الاستمرار في حديث عن التحول الديمقراطي من دون مراجعة الحركات الإسلامية موقفها من مبادئ الديمقراطية، لا إجراءاتها فحسب".

ويضيف من ناحية أخرى: "لا يمكن التقدم في هذا الموضوع من دون مراجعة القوى السياسية الأخرى وموقفها من إقصاء التيار الإسلامي". وهو على كل حال يرى أن الأيديولوجيات المنعزلة، سواء الإسلامية أو القومية أو اليسارية أو الليبرالية، كلّ على حدة، فقدت إمكانية قيادة المجتمع العربي نحو التغيير.

وبرأي بشارة، فإن البديل سينشأ بالقطيعة مع تلك الأيديولوجيات السلطوية والشمولية وعبر تفاعل عناصر ثقافية وقيمية، من تلك الأفكار كلها، لتؤلف خليطًا متجانسًا يتناسب مع واقعنا ويتأسس من خلاله تيار سياسي مركزي على الساحة العربية. يقترح صاحب "المجتمع المدني" تيارًا يؤمن بالحقوق السياسية والمدنية من الفكر الديمقراطي الليبرالي والعدالة الاجتماعية من الفكر اليساري والالتزام بالقضايا العربية والانتماء للحضارة العربية الإسلامية. ولا يمثل هذا التيار علمانية متطرفة تعادي الدين والمتدينين، أو أصولية دينية متطرفة، تكون على النقيض من الأخيرة.

ونتيجةً لذلك، فإنه ينتقد ما يمكن تسميته "تهاون" الثوار بأن تتم محاكمات مبارك وأركان نظامه، وفق قوانين النظام ذاته، الذي أطاحت الثورة رأسه، وعدم تشكيل محاكم "خاصة" أو "ثورية"، تعتمد مبادئ واضحة للعدالة الانتقالية يجري التصميم عليها، حتى لا نصل إلى مواسم البراءة للجميع التي آلت إليها تلك المحاكمات، أو اتهامهم في قضايا، لا ترقى إلى إدانة سياسية لنظام ظل ما يربو لنحو ثلاثة عقود يفرّط في الثوابت الوطنية ويهدر موارد الدولة وتصفية مقدراتها ويشلّ قدراتها، نحو التنمية والاستقلال السياسي والاقتصادي، وعدم التبعية ويحررها من الاستغلال. وهي كلها عوامل مؤدية إلى حرف مسار الثورة وتمكّن الثورة المضادة من بلوغ أهدافها في عدة مرات حتى وصولها إلى نقطة 3 يوليو.

يؤسس بشارة تعريفه عن الثورة والانقلاب، وهي إشكالية مهمة في الكتابة، غير محصورة في بنيتها حول تحديد الثورة بشكل مطلق في مربع الإخوان والانقلاب على فترة حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي. لكنه يرى أنه منذ البدايات، كانت الثورة تتضمن عنصرين فاعلين؛ أولهما، ثورة شعبية مدنية ذات طابع ديمقراطي، وثانيهما، انقلاب عسكري نفذه الجيش ضد مبارك. وصارت المرحلة الانتقالية تاريخ صراع بين مكوِّن الثورة ومكوّن الانقلاب الكامن فيها، حتى انتصر الانقلاب في النهاية.

ويلفت في المقابل، إلى دور المجلس العسكري في محاصرة الثورة واحتوائها، ليتجنب تطور الثورة إلى مواجهة شاملة مع النظام، والقضاء فقط على رأسه وجناحه السياسي (الحزب الوطني المهيمن وقتها) وتصفية مشروع التوريث، لينفرد بالسلطة وحده. يعزز تلك الفرضية ويطورها نحو نتيجة مفادها عزل المجلس العسكري لأي هيئة منتخبة من خلال تجاوزه لنتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية في آذار/مارس 2011، وهي "نعم"، والتي كانت خرقًا سياسيًا لتعهداته في ذلك الوقت بإمضاء الإرادة الشعبية، ونفذ عكسها.

أهمل المجلس العسكري الأقلية والأغلبية، سواء ممن قالوا "نعم" أو "لا"، وأعلن "إعلاًنا دستوريًا" من ثلاث وستين مادة. وظفر وقتها بالصراع المتوهم الذي أخذ شكلًا "هوياتيًا" بين الفريق الإسلامي والمدني.

من جهةٍ أخرى، ثمّة أمر مهمّ وقع فيه الإسلاميون (ومنهم الإخوان) لم يؤتَ على ذكره في الكتاب؛ وهو حشد الإسلاميين لما أسموه "غزوة الصناديق"، وتأثير تلك الدعاية الدينية في توجيه المواطنين للاستفتاء بـ"نعم"، وتكريس صراع غير حقيقي ومتوهم، في حينها، يجعل الفريق المؤيد لـ"نعم" هو المؤيد للدين والهوية الإسلامية، والفريق الرافض لها ضد الدين.

يبين بشارة، بوضوح، في هذا الفصل المعنون بـ"عهد الرئيس الذي لم يحكم"، الأخطاء التي وقع فيها محمد مرسي، وأدت إلى عزله في النهاية. فضلًا عن تحليل طبيعة فترة حكمه من عدة جوانب سياسية واقتصادية وتفصيل دلالة كل منها. فهو يضع مشهدية ذات دلالة قوية عندما أقسم الرئيس المنتخب اليمين الدستورية أمام المحكمة الدستورية في 30حزيران/يونيو 2012، وأمام حشد كبير من ممثلي الثوار ومؤسسات الدولة ورجال الأعمال والنظام القديم، وبمجرد ظهور طنطاوي وعنان، ضجت القاعة بهتاف صادر من الصفوف الخلفية يردد: "يسقط يسقط حكم العسكر".

لكنّ عريف الحفل من جماعة الإخوان، أحمد عبد العاطي، كما يصفه المؤلف، هتف "الجيش والشعب إيد واحدة". ورددت خلفه الصفوف الأمامية فقط لتتلاشى معها تلك اللحظات المشحونة بالقلق والإحراج.

يشير المؤلّف كذلك إلى غياب التحالف السياسي والاجتماعي القوي الذي كان بإمكانه تقوية تحركات مرسي والمعارك التي خاضها، واتجاهه إلى شخصية ليست سياسية بتكليف هشام قنديل، بتأليف حكومة جديدة. فهناك خصومة وقعت بين محمد مرسي والعديد من القوى السياسية والثورية، التي ساندته ضد ممثل النظام القديم، أحمد شفيق، لكنهم أسقطوا هؤلاء من حساباتهم في خضمّ الطموح بالانفراد بالسلطة وأدى في النهاية لنجاح الدولة العميقة في التخلص منهم.

ويطرح بشكل جاد في الفصل ذاته، تفويت محمد مرسي لفرصة تاريخية بعدم قيامه بسلسلة إجراءات ثورية جذرية، ضد قوى النظام القديم، مستفيدًا من تلك الشعبية التي حازتها التغييرات التي أجراها داخل قيادة القوات المسلحة، خصوصًا مع الصورة الذهنية السلبية لدور للجيش في إدارته للمرحلة الانتقالية الأولى وما شهدته من فوضى وارتباك وقمع ضد الثوار وانتهاكات بحقهم.

كانت القوى السياسية المؤيدة للثورة مستعدة وجاهزة للتعاون مع من يقوم بتلك التغييرات الثورية وتنتظر محاسبة القيادات الأمنية والعسكرية على الجرائم طوال مرحلة الثورة وما بعدها. لكنه أخفق في ذلك وتنازل أو تغاضى عنه، في سبيل اعتقاده تجاه رئيس المخابرات العسكرية، آنذاك، عبد الفتاح السيسي، الذي عينه وزيرًا للدفاع، باعتباره "حليفًا جديدًا يمكنه الاعتماد عليه"، كما يوضح الكاتب.

يتابع صاحب "سورية درب الآلام نحو الحرية - محاولة في التاريخ الراهن": "إن الثورة المضادة أكثر عنفًا وقمعًا من النظام القديم الذي تدافع عنه، حيث تستخدم أدوات الثورة في تحشيد الشارع وتعبئته، لكن يغلب عليها عنصر الكراهية والانتقام.

وجرت الثورة المضادة في مصر بحشد جمهور ضد آخر، بأدوات تجييش الجماهير والتعبئة الشعبية التي أوجدتها الثورة، لكن في خدمة المعركة ضد أهداف الثورة ذاتها. ويتحدث الكاتب هنا أيضًا عن جمعة تفويض السيسي ومجزرة المنصة ومجزرتَي اعتصامَي رابعة والنهضة.

يظل دور النشطاء والباحثين المشاركين في الكتاب باختلاف تنوعاتهم الفكرية ومواقعهم السياسية وانتماءاتهم الأيديولوجية، العمود الفقري الذي تنتصب عليه كثير من الحقائق المطروحة وتصحيح المعلومات، وتوثيقها، من دون بخس رأي طرف، بالإضافة إلى جداول كاملة بالبيانات والإحصاءات.

يميز بشارة بين مواقف الدول الأوروبية والولايات المتحدة وروسيا وكذلك الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي من الثورة عام 2011، موضحًا أن الإدارة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي ساندوا عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو.

يصف بشارة مواقف دول مجلس التعاون الخليجي من الثورة المصرية بشكل عام، وقال عنها: "لا شك في أن من يقارن بين المواقف الخليجية من ثورة 25 يناير والمواقف الخليجية من الانقلاب العسكري سيجد أن الدول التي أيدت الثورة عارضت الانقلاب، والدول التي عارضت الثورة أيدت الانقلاب، ما يعني أن المسألة لا تتعلق بمعارضة الإسلاميين فحسب، وإنما معارضة التحول الديمقراطي بشكل عام".

ورغم الأسى المشروع وراء إجهاض هذه الفرصة التاريخية الاستثنائية، في ثورة يناير المغدورة، ومبادئها المجهضة، لكن ليس ثمة حتميات تاريخية، بل صيرورة وتداول، وسيظل الفعل الثوري ممكنًا بقدر الاستفادة من معطيات الواقع، وتفادي الأخطاء وتجاوزها والاعتراف بها، كل حسب موقعه.

 

المساهمون