"ثورة مصر" لعزمي بشارة.. أركيولوجيا الجمهورية (1 – 2)

"ثورة مصر" لعزمي بشارة.. أركيولوجيا الجمهورية (1 – 2)

16 فبراير 2017
(في القاهرة، 1958)
+ الخط -

ينحو المفكر العربي عزمي بشارة من خلال كتابه "ثورة مصر.. من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير" إلى ما يشبه الحفر الأركيولوجي في تاريخ مصر الحديث، وإعادة قراءة جوانب منه في ضوء الوقائع التي جرت ومآلاتها في القرن العشرين، لفهم الثورة المصرية منذ كانون الثاني/ يناير 2011، ومحددات منطلقاتها وخلفياتها الاقتصادية والطبقية والتراكم الاجتماعي والسياسي والفكري، بهدف وضع الثورة في سياقاتها ومعرفة كيفية نشوء الحالة الثورية وتكوّن الفاعلين التاريخيين فيها، ومن خلال تحليل بنية الدولة والنظام التي كانت الثورة بصدد تغييرهما، محددًا ذلك بصعود جمهورية يوليو 1952 ومعضلاتها السياسية وإخفاقاتها التاريخية وهزائمها، حتى نهاية عصر مبارك.

يُعنى الكتاب الصادر في مجلّدين عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، بموضعة الثورة في سياقاتها التاريخية وجذورها المشتركة المكونة لعواملها وأصولها في التاريخ المصري.

ففي الجزء الأول منه (خمسة فصول)،  يبدأ بشارة بموجز تاريخي يعود لبدايات الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ حيث بدايات حكم خلفاء محمد علي ووقوع مصر تحت قبضة الاحتلال الأجنبي الذي ولّد فكرة "مصر للمصريين"، التي يراها بشارة جوهر ما حصل في 25 يناير، وقد استعارها المصريون الثائرون لاستعادة مصر من الاحتلال "الأجنبي" و"المحلي"، لتكون مصر لكل المصريين، لا لطبقة بعينها أو مؤسسة وطائفة ممثلة عنهم بشكل قسري وقمعي، إذ يفترض في ذلك الشعار المبكّر معناه الحداثي لتكوّن مفاهيم المواطنة.

وعبر خلفية تاريخية موجزة وشديدة التكثيف، مهّد للعوامل المؤدية إلى اندلاع ثورة  يوليو 1952، ويرصد ذلك الانتقال المعقد للقوات المسلحة والتطور الذي لحق بها من مؤسسة لا تتدخل في الشأن الداخلي والسياسي، إلى عنصر بات مؤثرًا وحاسمًا في القرار، توّجته ثورة الضباط الأحرار وإجراءاتها السياسية التي حظرت الأحزاب وألغت دستور 1923، وصفقة الأسلحة التشيكية وتأميم قناة السويس التي رسّخت من وجودها السياسي، كما كانت المحطة الأبرز في تكوين المؤسسة القمعية في الحياة الاجتماعية المصرية ومصادرة المجال العام، من دون أن نهمل وجهها الآخر من إعادة توزيع الثروة والشوط الذي قطعته في سبيل تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية وجعل التعليم حقًا لكل المصريين، حتى التعليم العالي.

لكن، ثمة تناقضات أحاط بها بشارة في سبيل تحقيق فرضيته الأساسية من اعتبار فترات حكم رؤساء مصر من ناصر إلى مبارك، جمهورية واحدة، ويضعنا على القواسم المشتركة بينها والعناصر الرئيسة داخلها التي تحدد منطلقاتها، من حيث بنية الدولة والنظام الأمني السائد فيها، ووجود حزب حاكم متداخل مع بيروقراطية الدولة، إلى جانب ملامح تدفعنا إلى القول إن "هذه النظم الثلاثة في حقيقتها جمهورية واحدة، هي جمهورية 23 يوليو".

يرى صاحب "أن تكون عربيًا في أيامنا" أن للنظام الناصري وجهين؛ إذ رافقت منجزاته في التأميم وإعادة توزيع الثروة وإرساء بنية تحتية جيدة للاقتصاد الوطني وتعميم التعليم، عمليةٌ ضخمة لبناء الدولة الأمنية وانتشار الخطاب الشعبوي ورفض الرأي الآخر ومصادرته، والمبالغة في تقدير المنجزات والقوة الذاتية، وهو ما تبعه تردٍّ في الأداء المؤسسي وهبوط مستوى التعليم.

هكذا، فإن تلك التناقضات الداخلية لثورة 1952 هي التي استمرت ودأبت على التشكُّل في عهود لاحقة، ساهمت فيها الديكتاتورية العسكرية وعدم الانفتاح الديمقراطي على القوى السياسية، وأدّت إلى عدم تشكّل حاضنة ديمقراطية، اجتماعية وسياسية وطبقية، تدافع عن المنجز الاجتماعي والطابع شبه الثوري.

هذه العوامل تسببت في هزيمة الثورة وسقوط خطابها الشعبوي منذ هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وضعف أدائها السياسي وصعود قوى الثورة المضادة، وتغير تام في بعض ثوابتها وقوامها السياسي القائم على تأدية دور خدمي للمواطن أو ذلك الدور السياسي والإقليمي بتمدد نفوذها في محيطها العربي والأفريقي والصراع العربي الإسرائيلي، الذي بدأ يتراجع حتى انحل تمامًا، بصعود السادات للحكم وتصفية الدور المصري في المواجهة العربية مع إسرائيل وتثبيته بالصلح مع العدو التاريخي للعرب، والانفتاح الاقتصادي الذي شهد إجراءات مخالفة للنظام الاشتراكي وأصبح الاعتماد على الجيش والأمن لحفظ منصب الرئيس والنظام وانتقال السلطة والمجتمع من "التعاضدية الناصرية إلى تكريس الزبائنية" كما يقول بشارة، وصعود طبقة رجال الأعمال، انتهاءً بتردي الأوضاع الاجتماعية في عهد مبارك.

ثمة دورٌ مهم للكتاب، هو أنّه يطرح رؤية نقدية عن الثورة؛ وهذا ما افتقدناه فعلًا. غياب هذه "المسافة النقدية" شكّل جانبًا واسعًا من انتكاسة ثورة 25 يناير، ما قاد إلى نجاح الثورة المضادة. فإن أحد أهداف العملية السياسية تجفيف منابع القداسة في المجال العام المتعلقة بالزعيم والملهم والقائد والتراث والماضي، وبالتالي فإن الكتاب ليس بصدد هدم القداسة هنا بشكل مطلق، لكنه يعمد إلى مقاربتها ومساءلتها بشكل عقلاني وإزاحة الثورة من حيز اللاتاريخية ورفع طبقات الطوباوية عنها إلى التاريخية وفهمها، بنيةً وصيرورة، بشكل أكثر دقة في سياقاتها التاريخية، فهي حدث داخل التاريخ وليست واقعة خارقة.

ضم الكتاب مشاركات فريق بحثي من بعض رموز الثورة، على اختلاف مواقعهم الأيديولوجية والسياسية وحتى الطبقية، فضلًا، عن الشهادات الحية المقارنة من المشاركين في صناعة الأحداث والخبراء، لتدقيق الأحداث والوقائع، لفحص توجهات الرأي العام حول الثورة من عدة زوايا. وربما، ساهم ذلك التنوع في حل إشكالية الحديث القريب عن الثورة وتوثيق أحداثها وهو الذي يتسبب أحيانًا في تأثر الباحث بمجموعة عوامل قريبة، أو بعض القوى الفاعلة التي لا تزال حية مع حدث في حال فورانه ويضج بمخاضات عديدة.

لكنّ رأيًا آخر يطرحه بشارة عن كتابته القريبة زمنيًا للحدث الثوري، فيقول: "كتابة التاريخ الراهن تجري في هذه الحالة قبل أن تزوّر الحوادث أو تكتب من منظور المؤسسات الجديدة وكأنه تاريخها الخاص". وهو ما وقع فعلًا من دون أن يمر ذلك الوقت الكافي الذي يجعل الذاكرة عصية على استرجاع أحداث وتفاصيل الثورة وتمّحي العديد من فعالياتها وأطراف الصراع فيها وأسماء شباب ارتبطت بهم، وآخرين، استشهدوا في أيامها. ففي الإعلام الخاص بات الرأي السائد هو رأي "المتغلب"، وتم تعظيم دور وتهميش آخر وسالت الاتهامات على الثورة وأطرافها.

يخالف بشارة الكتابة الصحافية السريعة والاختزالية والكتابة التمجيدية حول الثورة، التي تفتقد إلى المنهج والإحصاء والتوثيق؛ فلا يعتبر أن الشعب المصري كان نائمًا سادرًا في ليل طويل حتى خرج وانخرط في مشوار ثوري يوم الخامس والعشرين من يناير؛ فقدّم في هذا الفصل المعنون بـ "لم يكن شعب مصر خاملًا قبل 25 يناير: موجز تاريخ الاحتجاجات في مصر الحديثة"، سردًا لوقائع تؤرخ الاحتجاجات المصرية منذ عام 1952 حتى مقتل خالد سعيد الذي كان بداية ولوج الثورة، وهو يوجز عرضها بنظرة سريعة خلال عهدي ناصر والسادات مثل مظاهرات الطلبة 18 و19 يناير عام 1977 ذات المضمون الاجتماعي بعد رفع الدعم عن السلع التموينية، لكنه يتوسع أكثر في التفصيلات حول طبيعة الاحتجاجات في العقد الأخير من عهد مبارك باعتباره ذا صلة عضوية بالاحتجاجات المباشرة في يناير 2011.

فيرصد نشوء حركات الضغط المجتمعي مثل الحملة الشعبية من أجل التغيير، وحركة كفاية و6 إبريل، ويتناول طبيعة كل احتجاج فئوي أو سياسي أو اجتماعي، وتابع دور القضية الفلسطينية في خروج مظاهرات لدعمها وتلاحم القوى السياسية المختلفة بسبب تراكم مشاعر الغضب لتواطؤ النظام المصري في حصار قطاع غزة كما الحال عام 2008، كما يوضح دور القضية الفلسطينية في تسعير حالة الاحتجاجات، وفي بناء وولادة الحركات الاحتجاجية، وكذا يشير إلى دور جماعة الإخوان والحركة العمالية في المخاض السياسي الجديد.

إلى جانب ذلك، يشير صاحب "في الثورة والقابليَّة للثورة" إلى الطفرة الإلكترونية والتقانية عبر انتشار المدونات التي شكّلت إعلًاما بديلًا، خلقَ معلومات لا يقدمها الإعلام الرسمي والفضائي الخاص، وأربك موازين الفكر الأمني الجامد الذي عجز عن فهم هذا الدور الجاد والجديد، واستيعاب أدواته التحريضية الجديدة ومؤثراته الفاعلة في جذب قوى جديدة غير تقليدية والانفتاح على شكل من العمل السياسي والضغط المجتمعي، وخطورة المدونين في تحشيد المحتجين وتوجيه بوصلة الاحتجاج، ومواصلة دورها وخلق مناطق نفوذ ثوري جديدة، وانتهاءً بظهور دور الجمعية الوطنية للتغيير.

يوضّح بشارة أن خروج حركة كفاية بشعارها "لا للتمديد.. لا للتوريث" في 12 كانون الأول/ديسمبر عام 2004، ساهم في نشر ثقافة الاحتجاج بين المصريين، وأن الحركة ساهمت، بعد ذلك، في ظهور نوعين من حركات الاحتجاج، أحدهما سياسي، والآخر ذو طابع اقتصادي. ويرصد، بالتالي، ارتفاع عدد المظاهرات الإحتجاجية خلال الأعوام من 2001 حتى 2008، من 19 مظاهرة إلى 94، كان العمود الفقري الذي تنتصب عليه المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تلاها، الفساد ومنظومة التعذيب، وأخيرًا، الحقوق السياسية.

يفضح المؤلّف في ذلك الفصل أيضًا منظومة القمع والتعذيب، والتعذيب بالوكالة، في مقار الأجهزة الأمنية، بما فيه من إذلال وحط من كرامة الإنسان، والتي كانت سببًا للنقمة والاحتجاج في أعوام ما قبل الثورة؛ حيث كان التعذيب بمثابة عرض يومي يختار ضحاياه بعشوائية، عبّر عنه تهشُّم وجه ورأس خالد سعيد، الذي مثّل أيقونة ثورية جعلت من شعار الكرامة الإنسانية (إلى جانب العدالة الاجتماعية) صرخةً ذاتَ مدلول قوي يبرزه بشارة تحت عنوان: "لماذا أكملت الكرامة الإنسانية ثالوث العيش والحرية".

يمضي بشارة في الفصلين الأخيرين نحو هدفه المباشر للوصول إلى المآل الأخير وهو تحقق ثورة 25 يناير بعنوان: "ثورة 25 يناير: العبور الكبير من الاحتجاج إلى الثورة - تاريخ وتوثيق". يتوسع في تفاصيلها ويومياتها وتسجيل روايات الفاعلين فيها ورموزها وتدقيقها. كما يضع تصورًا للاحتجاجات والمسيرات والاشتباكات والاعتقالات، يتحرّى وقائعها يومًا بيوم، وبدايات التحضير الحثيثة، التي سبقت "العبور الكبير"، حتى كبرت "كرة الثلج"، كما أطلق عليها محمود سامي، أحد شباب الثورة، وتدحرجت باستمرار وازداد معها أعداد المتظاهرين، حتى وصلت إلى كتلة ضخمة تجاوزت كل حواجز الخوف.

 يلفت بشارة إلى أن الإسكندرية والسويس كانتا شريكًا لميدان التحرير في نجاح الثورة، ولا يعتبر صمود التحرير ممكن التحقق لولا الأخبار الواردة من المحافظات الأخرى. كما يستعيد بعض السمات المميزة لطابع كل محافظة وعلاقتها بالنظام في علاقة التهميش والمركزية، فهو يشير إلى الطابع العمالي لمدينة المحلة الكبرى، وإرث المقاومة الشعبية الباسلة لمدينة السويس ضد الاحتلال الإنكليزي وصد العدوان الثلاثي، وانخراط أهالي أسوان في الشأن السياسي بعدما أهملوه وتراجعوا عن دورهم فيه كرد فعل على تهميش الدولة لهم.

الفصل الأخير، خصصه صاحب "الدين والعلمانية" لشباب الثورة ممن حضّروا لها، ولفعالياتها، عبر جدول حدد فيه مؤهلاتهم العلمية وعملهم وانتماءاتهم السياسية، سواء التنظيمي أو العقيدي أو المستقل. وإن كان يرى أن القسم الأكبر منهم لم يكن حزبيًا، إلّا أن الشباب استطاعوا، على اختلاف توجّهاتهم السياسية، تجاوز الانغلاقات الأيديولوجية الواقعة فيها الأحزاب التقليدية.

إشارة أخيرة تبقى جديرةً بالانتباه؛ حصر بشارة 333 اسمًا من النشطاء في كتابه الذي يقارب نحو 1400 صفحة من القطع المتوسط. ومن خلال فريق بحثي وفّر له هذه العينة الكبيرة نسبيًا، وضع تسجيلات وشهادات هذا الكم من الشباب المنخرط في الثورة، ليخلُص إلى نتيجتين؛ أولاهما، أن النواة الرئيسة في الثورة كانت غالبيتها من شباب الطبقة الوسطى، وحاملي الشهادات الجامعية. الثانية، هي أنّ المفكّر العربي لم يجد مبررًا لتحديد ووصف انتماءات دينية لأي منهم، إلا لمن ينتسبون للإسلام السياسي، لأن الطابع الهوياتي المصري والانتماء للوطن كان مكونًا أصيلًا في ربيع القاهرة وثقافة ثورة 25 يناير.

المساهمون