حزب النور السلفي... الثورة تحت عباءة "القَيّم"

حزب النور السلفي... الثورة تحت عباءة "القَيّم"

13 فبراير 2017
كان "برهامي" وحزبه في طليعة داعمي الانقلاب (فرانس برس)
+ الخط -
يقول تشي جيفارا "الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن"، هكذا كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير، مفاجئة، سريعة، قاسية. خرجت من سنا التحرير فانسابت في ربوع مصر لحق بها من لحق وخسر فيها من خسر، والذين لم يستوعبوا، تحرك عجلة الزمن من تحت أقدامهم فسقطوا في بئر الخذلان.

كانت الجموع تتحرك وتفيض على الأرض بركاناً من الغضب، لم تعد أركان النظام قادرة على تحمله، وتراتيل الخوف لم تعد مقدسة لدى الشعب إذ اقترب من معبد السلطان وأوشك على هدمه. وهنا فقط كان دور رهبان السلطة وشيوخها..


سيد بلال.. القتيل المعذب
البداية في ليلة مظلمة شديدة البرد من ليالي يناير الطويلة، وتحديداً 5 يناير/ كانون الثاني 2011، حين اختطف رجال الأمن سيد بلال من وسط عائلته، وساقوه إلى مصرعه في قصة مأساوية متكررة.

لم تكن مفارقة أن يكون سيد بلال هو الجناح الثاني كأيقونة للثورة مع خالد سعيد، وكلاهما من أبناء الإسكندرية، وكلاهما قتل بنفس الطريقة الوحشية على يد الأمن المصري، الذي استخدم سيد بلال ككبش فداء لتفجير كنيسة القديسين، قتلوه داخل مقار احتجاز أمن الدولة بالمحافظة، الأمر الذي أشعل موجة سخط عارمة على نظام مبارك في أيامه الأخيرة، وشهد موجة تصعيد إعلامي وحقوقي غير مسبوقة.

وكان "بلال" واحداً من أبناء الدعوة السلفية ذات الشعبية الكبيرة بالإسكندرية حيث نواتها الأولى وانطلاقتها في سبعينيات القرن الماضي، ولم يكن يعلم الفتى البسيط المغدور وهو يتلقى دروس العلم عند شيوخه أن مقداره عندهم سيكون دية مالية مدفوعة تقدم إلى أهله لتجاوز إشكالية قتله ومحاسبة قاتليه.

وكانت حالة ذات طابع مختلف، كونه واحداً من أبناء التيار الإسلامي الذين كان ينكل بهم على كل حال خلال عصر ما قبل الثورة، ومن جهة أخرى هو ابن الدعوة السلفية وهي من كبرى الحركات الإسلامية على الساحة المصرية، فحملت حادثته طابعاً مركباً، حيث طبيعة انحياز حركته ذات الطابع شبه التنظيمي إلى قضيته، الأمر الذي أدى إلى فعل عكسي بعدما تسبب قادة الحركة وتحديداً نائب رئيس الدعوة السلفية ياسر برهامي "القيم" الحقيقي للدعوة في تجاوز المسألة، بعدما أقنع عائلة سيد بلال بقبول الدية والأمر الواقع، وكانوا قد تعرضوا إلى ضغوط أمنية قبل ذلك حسبما صرح شقيق القتيل إبراهيم بلال، ثم انتهت القضية قضائياً عندما تمت تبرئة جميع المتهمين في جريمة القتل من قبل القضاء المصري وكان آخرهم ضابط أمن الدولة حسام الشناوي المبرأ في 16 فبراير/ شباط 2016.

وحسبوا ألا تكون ثورة
الثورة تتحرك والإسكندرية تنتفض في جمعة الغضب، كانت الدعوة السلفية وياسر برهامي تحديداً قد رفضوا المشاركة في التظاهرات وحرضوا أتباعهم على عدم النزول، إلا أن المفارقة أن برهامي عقد واحداً من أطول دروس العلم في التاريخ الحديث، استمر من بعد الجمعة إلى ما بعد العشاء!

استخدام مصطلحات كالفتنة والهرج والمرج كان شائعاً في معالجة أمر الثورة في بادئ الأمر، وكانت الدعوة السلفية هنا تنافس عقيدة المداخلة في تلك الآونة من حيث طاعة ولي الأمر، وعدم الخروج على الحاكم وإن أخذ مالك وجلد ظهرك!

وإلى الآن كان موقف الدعوة السلفية من الثورة متناسقاً مع منهجها القديم الرافض للحراك الثوري بشكل عام، المنطلق إلى الاختلاط الاجتماعي مع الناس وتعليمهم أصول العقيدة والعلم الشرعي، بعيداً عن الانخراط في أي عملية سياسية.

انتهت جمعة الغضب وانتهى درس برهامي الطويل، وربما خرج من المسجد وأتباعه وهم لا يعلمون أن أطول يوم في تاريخ مصر انتهى مع أطول درس في تاريخها أيضاً، وأن مصر التي كانت قبل ساعات لن تعود إلى ما كانت عليه، وأن على بعد أمتار قليلة منهم قتل المئات من الشباب، وأن الشرطة قد لاذت بالفرار وأضحى نظام مبارك إلى زوال.

النزول إلى البحر
في آخر أيام الثورة ومع القفز المطلق من مركب السلطة وتأييد مبارك، بدأت عملية تحول قاسية وسريعة في المواقف، فكان زلزال الثورة ضارباً في المجتمع المصري حتى أدنى القاع، فأصدرت الدعوة السلفية بيان تأييد للثورة في نهايتها، وهو الأمر الذي أدى إلى تأكيد العديد من المحللين السياسيين بأن نظام مبارك غدا إلى زوال بناء على هذا البيان، فتحول الدعوة السلفية ونزولها إلى بحر الثورة المتلاطم الأمواج يؤكد تجاوز المرحلة القديمة وبداية مرحلة جديدة في تاريخ الحياة السياسية المصرية.

ظهور النور وديناميكية التغيير
نستطيع القول إن أقوى وأسرع عملية تغيير تمت على الساحة المصرية، كانت خاصة بالدعوة السلفية في الإسكندرية، التي قررت أن تنخرط تماماً في العملية السياسية، وقررت إنشاء حزب سياسي كان هو حزب النور الذي تأسس بعد أيام قليلة من الثورة، ولم يكن الأمر عابراً على الباحثين والمقربين من الحركات الإسلامية والتيار السلفي بشكل خاص، فتأسيس الحزب والدخول إلى عالم السياسة والانتخابات والاستفتاءات بكافة صورها، مثّل مراجعة صادمة لأصوليات ذلك التيار السلفي المتموضع في أقصى يمين خارطة الإسلاميين.

المثالية صعبة هزيمتها
نزل التيار السلفي الاسكندري إلى المعارك الانتخابية محملاً بقيم مثالية بالغة التأثير في وجدان المصريين، فرغم أن الدعوة السلفية لم تشارك في ثورة يناير، وانزوت عن المشاركة في المسارات السياسية المختلفة، ولم تكن تعترف بالانتخابات من الأساس، فضلاً عن أنها في فترة المهد ولا تمتلك أية خبرة بتلك المعايشات بالغة التعقيد، إلا أنها استطاعت أن تحقق انتصارات صعبة في جميع الاستحقاقات الانتخابية التي شاركت فيها، خاصة الانتخابات البرلمانية التي حل فيها حزب النور وكتلته الانتخابية في المركز الثاني بـ 123 مقعداً بنسبة 24% من إجمالي المقاعد، متفوقاً على أحزاب عريقة كـحزب الوفد والتجمع، ومنافساً لخصمه العنيد حزب الحرية والعدالة المنبثق من جماعة الإخوان المسلمين.

براغماتية مطلقة
مع الوقت وسخونة الأجواء داخل إطار مسرح السياسة المصري لم يستطع الحزب الناشئ أن يصمد طويلاً فسرعان ما دبت الانشقاقات بين أوصاله، خاصة أن رجل الدعوة السلفية القوي ياسر برهامي اختلف مع رئيس الحزب عماد عبد الغفور خلافاً بلا عودة، وتم التخلص من عبد الغفور الطموح صاحب فكرة التأسيس والعمل، وحل مكانه يونس مخيون الطيع بين يدي شيوخ الدعوة، وانتهج الحزب طريقاً يعتمد على مصلحته ككيان أينما حل دون الرجوع إلى الثوابت والمثاليات المرفوعة منهم على مدى الأيام، فمن التقارب المبهم مع جماعة الإخوان المسلمين بعد صعود الرئيس محمد مرسي إلى سدة الحكم في 24 يونيو/ حزيران 2012، إلى المعارضة الكاملة للرئيس بداية من 2013، والتقارب مع الأحزاب الليبرالية والعلمانية بشكل مفاجئ، حتى أن العديد من مؤتمرات جبهة الإنقاذ المتصدرة لمعارضة مرسي، كانت تتم برعاية حزب النور المنبثق من خلفيات ما عُرفت بمعارضة السلطة طوال تاريخها.

جلال المرة على مسرح الانقلاب
كان مشهد الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013 مكتملاً بحضور لفيف من أطياف مختلفة من القوى السياسية والمؤسسية للدولة، لكن حضور جلال المرة مبعوث الحزب السلفي كان مختلفاً، فدعم ثاني أكبر الأحزاب الإسلامية وجوداً على الساحة لانقلاب عسكري على رئيس منتخب و(إسلامي) لم يكن بالأمر السهل الذي تقبله الجموع، حتى من السلفيين أنفسهم وأبناء الدعوة، لكن التبرير كان حقن الدماء والحفاظ على الدولة هو الحاضر لتفسير المشهد الصادم، ومع ذلك لم تحقن الدماء بل تفجرت أنهاراً في سائر ربوع المحروسة، وكذلك لم يبدِ الحزب أي موقف شرس لوقف ذلك النزيف المستمر من دماء المصريين، ولعل هذا ما يفسر السقوط المزري للحزب سياسياً وشعبياً، فلا حاضنته الإسلامية تقبلته، ولا من اصطف معه قبلوه بخلفيته المخالفة لأجندتهم.

الاصطفاف خلف الجنرال
غداة وصول عبدالفتاح السيسي إلى سدة الحكم كال النوريون بقيادة شيخهم ياسر برهامي المديح إلى الجنرال الصاعد، واعتبروه معتدلاً ومحافظاً على الصلاة، ودعموه في جميع الاستحقاقات الانتخابية المعقودة، ونظموا المؤتمرات وحشدوا الحشود لتأييده، في تملق منقطع النظير للاصطفاف والتأييد الكامل للسلطة القائمة.

ومن هنا أصبح حزب النور يمثل نموذجاً نادراً لمواقف شديدة البراغماتية والتناقض في آن واحد، وأن الشيوخ الذين بسطوا نفوذهم على الحزب خطوا خطوات حثيثة لإفشال العملية السياسية بعد ثورة يناير، فمن مجابهة الثورة في عنفوانها إلى مسايرة الانقلاب في مطلعه كان الخط واضحاً من استخدام تلك الحركة السلفية في وأد ثورة يناير ومكتسباتها.

المساهمون