إيران وعقيدة تصدير الثورة: البضاعة في أسواق العرب

إيران وعقيدة تصدير الثورة: البضاعة في أسواق العرب

25 يناير 2017
(في شوارع طهران، تصوير: كامي)
+ الخط -
في الفاتح من شباط/ فبراير عام 1979، عاد الخميني وهو في أوج انتصاره إلى طهران، في مشهد مهيب قل أن يتكرّر لشيخ ثمانيني أصبح قائدًا للثورة وملهمًا لجموع الملايين التي استقبلته استقبال الأباطرة المنتصرين عند ترجّله من الطائرة، مردّدين بصوت واحد "السلام عليك أيها الإمام الخميني"، وكانت هذه نهاية لحقبة فوران الثورة ورسوّها على شواطئ الملالي.

وسرعان ما تحرّك الرجل غير مهدر للوقت، مستغلًا عامل القوّة العظمى التي حظي بها، بعدما أصبح "مقدسًا" في الأمة الإيرانية المنتصرة لتوّها، فقام بالإطاحة سريعًا برئيس الوزراء شابور بختيار قائلًا: "سوف أركل أسنانهم لقلعها"، وعيّن بدلًا منه مهدي بزركان، وأعطاه تفويضًا تاريخيًا وقال: "بما أنني قد عيّنته فيجب أن يطاع"، ثم اعتبر حكومته "حكومة الله" وحذّر من أن عصيانها هو عصيان لله.

بمكرٍ ودهاءٍ كبيرين، رسم الخميني نفسه كمرشدٍ روحي للثورة، مانحًا نفسه منصبًا أكبر من أي سلطة بل صار هو باعث السلطة نفسها ومحرّكها الأوّل.

استطاع الخميني أن يزيل كل عقبة أمامه من أعداء ومناصرين وطامحين، وأخيرًا قام بإعلان جمهورية إسلامية تحت نظام ولاية الفقيه، كان هو قائدها الأوّل ومرشدها الأعلى.


أيديولوجية الثورة والدولة
"استقلالية.. حرية.. جمهورية إسلامية"، كان هذا هو الشعار الذي تردّده الجماهير الإيرانية في ثورتها، وحمل في طيّاته جوانب الغضب ضد سياسات الشاه الاستبدادية وضدّ الهيمنة الغربية على مقدّرات الأمّة، الشاه محمد رضا بهلوي، المولع بالغرب وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية، كان قد مكّن الأجانب على حساب الهوية الثقافية والدينية للإيرانيين، غير أن تهاو اقتصادي بالغ وموجات فقرٍ ضربت الشعب بمختلف طوائفه، أشعلت حركة مضادّة على مدار سنوات، قادها العديد من المفكرين وقادة الرأي الإيرانيين أمثال علي شريعتي، وجلال آل أحمد وغيرهم، توّجت في النهاية بالثورة الإيرانية، ورغم أنها أتت من مشارب فكرية مختلفة، إلا أن "القوّة الخمينية" سيطرت وفرضت نفسها على الهوية الثورية.

كان الخميني كثيرًا ما يردّد بأن الثورة والشهادة ضدّ الطغيان جزءٌ من الإسلام الشيعي، رافضًا تأثير الأميركيين والسوفييت في ذلك الوقت على الدولة، رافعًا شعار "لا غربية ولا شرقية.. جمهورية إسلامية".

كما رأى قائد الثورة الإيرانية أن الإسلام يحتاج تطبيق مبدأ "ولاية الفقيه" في الحكم، وأنه يجب حماية الشريعة من التجديد والتحريف بوضع الفقهاء الإسلاميين على رأس الحكم، معتبرًا كل هذا تأسيس لنظام "ثيوقراطي" عنيف في إيران له تبعاته، وعليه اندلعت حركات معارضة للخميني ونظامه، سرعان ما تم سحقها عن آخرها في نهاية الأمر ودانت له الدولة عن بكرة أبيها.


تصدير الثورة
ثورة عارمة كالثورة الإيرانية في عنفوانها كانت مقلقة لدول الجوار في منطقة الشرق الأوسط تحديدًا، والتي كانت تتمتع بأنظمة لا تقل استبدادًا وقهرًا عن نظام الشاه، ومما زاد من حالة الرعب عقيدة الخميني نحو الثورة، إذ يرى أن "تصدير الثورة" أمر حتمي، وبحسب قوله: "لا يعني تصدير الثورة أن نتدخّل في شؤون دول أخرى، ولكن سنجيبهم عن أسئلتهم بشأن معرفة الله".

مثلت تلك العقيدة تحديدًا، محورَ إزكاء الصراع ونقله من داخل إيران إلى خارجها، وبدأت أسراب فارس تعبر الخليج إلى أرض الجوار، وتأثّر بها الشباب وقادة الرأي في مختلف البلدان، إلا أن المحور الأخطر تمثّل في الجانب الطائفي الذي أحيته الثورة الإيرانية بعد أن تلبّست بالثوب الشيعي الخالص، ورأى الشيعة العرب في إمام فارس روح مهديهم المنتظر ومخلّصهم الموعود، فما بين "الطموح الخميني" والرغبة الجماهيرية في التغيير التقت روح الثورة الإيرانية مع جيل جديد قرّر أن يصنع التغيير.


الحرب العراقية الإيرانية
الدعاية الإيرانية بتصدير الثورة أحدثت فزعًا في العراق، دولة الجوار، وهي بلاد لها طابعها الخاص؛ فهي منشأ التشيّع وبها أهم مزاراته في كربلاء والنجف الأشرف مرقد الإمام علي.

حاولت إيران التواصل مع الأغلبية الشيعية في العراق وحثّها على القيام بتمرّد ضدّ السلطات هناك، بالإضافة إلى صراع طويل الأمد على الحدود بين الدولتين، ثم دعم العراق حركة "مجاهدي خلق" الإيرانية المسلحة المعارضة لنظام المرشد.

ومن هنا بدأ الصراع الأكبر بين صدام حسين والخميني في أطول معارك القرن العشرين، والتي بدأت في أيلول/ سبتمبر 1980، وانتهت في آب/ أغسطس 1988، مخلّفة أكثر من مليون قتيل، وألحقت أضرارًا بالغة بالبلدين على جميع المستويات.

انتهت الحرب بقبول الدولتين لقرار مجلس الأمن رقم 598 والقاضي بوقف الحرب وإطلاق النار، وقد عقّب الخميني على قبوله القرار بأنه كمن يتجرع كأس السم حيث قال: "ويلٌ لي لأني ما زالت على قيد الحياة لأتجرّع كأس السُم بموافقتي على اتفاقية وقف إطلاق النار.. وكم أشعر بالخجل أمام تضحيات هذا الشعب"، وكانت هذه أفدح أثمان فكرة تصدير الثورة في مستهلّ ميلادها.


فتى إيران المدلّل
"حزب الله" في لبنان هو دولة داخل دولة، من حيث المقومات العسكرية والاقتصادية والجغرافية، وهو حزب منذ نشأته تابع لإيران ومدعوم منها، ولا ينسى الشعب اللبناني "سقطة" حسن نصر الله الشهيرة قبيل انتخابات حزيران/ يونيو 2009، عندما أعلن في خطابه الشهير يوم 29 أيار/ مايو 2009 أنه إذا تم انتخاب فريقه فسوف يأتي بالسلاح إلى لبنان من سورية وإيران، مظهرًا نبرة طائفية بارزة حيث قال: "ما أعرفه أن الجمهورية الإسلامية في إيران، وبالخصوص سماحة الإمام القائد السيد الخامنئي - دام ظله الشريف - لن يبخلوا على لبنان بأي شيء"، وهو الخطاب الذي ساهم في خسارته الانتخابات أمام تجمّع 14 آذار/ مارس، ولكنه كشف عن حجم العبث الإيراني في الداخل اللبناني وطبيعة ارتباط حزب الله بها.


التوغّل الإيراني
رغم أن الرئيس الإيراني السابق رفسنجاني، انتهج سياسة عدم تصدير الثورة، إلا أن براكين ثورات الربيع العربي كشفت خطأ هذا التصوّر، وأن اليد الإيرانية تلعب بقوّة في عواصم العرب.

فها هي "قوّات الحرس الثوري" الإيراني و"فيلق القدس" تجوب في شوارع دمشق، سبقها دبيب خطى عسكر الملالي في بغداد العراق، ثم في اليمن، وتطوّر دور مليشيا الحوثي الذين ما كانوا إلا شيعة زيدية مسالمين متعايشين مع أهل اليمن في تسامح فريد، ثم تحوّلوا إلى حركة مسلّحة متغيّرة الهوية والأفكار، تقاتل على أساس طائفي موالية ومدعومة من طهران، ومن اليمن إلى البحرين التي سرعان ما أخذت ثورتها بعدًا مذهبيًا ولإيران دور أكبر في تحديد مساره ودعم نظرائه وقادته، أما الرعب الأكبر فتعيشه المملكة العربية السعودية مخافة أن يتطوّر شكل التوتّر في شرق البلاد حيث الأغلبية الشيعية إلى حراك عنيف على غرار حراك البحرين، الأمر الذي دفع دول الخليج إلى التحرّك في عمليات متنوّعة لوقف المد الإيراني، سواء بإنشاء قوات درع الخليج أو شنّ عمليات عسكرية كـ"عاصفة الحزم".

هذا الأمر، يفتح الباب حول توقّع شكل الصراع المتنامي بين إيران والعرب الذي يأخذ أشكالًا عدة، ويتمحور بما يتناسب مع مناخ كل بلد على طبيعته، بعد أن أصبح مكشوفًا لا من وراء ستار.

المساهمون