كيف لكرة القدم أن تكون أداةً سياسية؟ (1 -2)

كيف لكرة القدم أن تكون أداةً سياسية؟ (1 -2)

17 فبراير 2017
(جنوب أفريقيا 2010، تصوير: دان كيتوود)
+ الخط -

تنظيم كأس العالم لكرة القدم في جنوب أفريقيا (2010) يتيح لنا فرصة تَطوير أوهام كثيرة حول القوة الديمقراطية للمؤسسة الكروية. كأس العالم لكرة القدم، الحدث الكروي الأبرز، سيكون فرصة، مثل كأس العالم للرغبي 1995، لعَرض صورة لمصالحة مُمكنة بين شعب جنوب أفريقيا باختلاف مكوناته.

ورغم كل شيء، فهذه الفرضية قُلِبَت، فها هم البيض مدعوين للاستمتاع حول رياضة يمارسها السود. ووراء هذه المصالحة المُفترضة، يُعاد التأكيد على الأفكار المُشَتركة والمُتفق عليها حول المزايا المحتملة لمثل هذه البطولة بشأن الاقتصاد المحلي، والنظام السياسي والاجتماعي، وبشأن اندماج البلد في السوق العالمية.

هذا البُعد السياسي لكرة القدم، مدعومًا بخطابات لشخصيات هي الأبرز في تاريخ جنوب أفريقيا (نلسون مانديلا، ديزموند توتو، فريديريك دي كليرك)، تناقله العالم بأسره، ووسائل الإعلام، والمؤسسات السياسية والاقتصادية، بل وحتى المثقفون أنفسهم. تختفي الأزمة التي تعيشها جنوب أفريقيا منذ سنوات وسط الاحتفالات التي يتم الإعداد لها والتي من شأنها إخراس كل المعارضات. كرة القدم بوصفها أداة ضرورية للحكومات المناهضة للديمقراطية: هذه بلا شك إحدى الفرضيات الأكثر هيمنةً على مدار السنوات الأخيرة.


قوة الخطاب
التأكيدات الخطابيّة، في المجال السياسي والرياضي على حد سواء، لها قوة دامغة. في 28 مايو/أيار 2010، وأمام لجنة اختيار اليويفا للبلد المنظم لكأس أوروبا 2016، طلب نيكولا ساركوزي (رئيس فرنسا آنذاك) أن تستضيف فرنسا البطولة. يبدو أن هذا الطلب، كما يُذكّر ساركوزي نفسه، قد دُرِس إستراتيجيًا بما يتناسب مع وسائل وغايات اقتصادية وسياسية وإيديولوجية.

يصرّح ساركوزي: "نحن، نحن في فرنسا نرى أن الرياضة هي حل للأزمة. تحديدًا لأنه توجد أزمة وتوجد مشكلات، يجب أن نحشد البلد بأسره لتنظيم أحداث كبيرة. فهل يوجد ما هو أقوى من الرياضة؟ وداخل الرياضة نفسها، هل يوجد ما هو أقوى من كرة القدم؟ هذا قرار إستراتيجي بالنسبة لنا، قرار يحشد البلد بأسره في مواجهة الأزمة. في فرنسا، نحن نرغب في استضافة هذه الكأس. لا يوجد يسار ويمين، لا يوجد شمال وجنوب، لا يوجد شرق وغرب، بل يوجد بلد كامل يريد هذه الكأس".

ماذا تعني عبارة "وتحديدًا لأنه توجد أزمة وتوجد مشكلات، يجب أن نحشد البلد بأسره لتنظيم أحداث كبيرة"؟ هناك ضرورة اختراع هوية قائمة على رغبة جمعيّة في تحويل المجتمع، من أجل حل المشكلات التي خلقتها الأزمة السياسية والاقتصادية، لا سيّما بين الفقراء. ولا شك أن فرنسا، التي تعيش فترة ركود، ستشهد فترة صرامة في الاقتصاد وفي الميزانية، الأمر الذي سيضر بشريحة كبيرة من الشعب. والقرارات الأخيرة تهدف إلى تحقيق ذلك: تدمير الخدمات العامّة للتعليم والصحة والمواصلات والطاقة والماء.

في هذا الإطار، في هذا البُعد السياسي، "الأحداث الرياضية الكبرى" هي الاستعراضات التي تحدّث عنها غيّ ديبور. كتب ديبور أن "الاستعراض ليس مجموعة من الصور، بل علاقة اجتماعية بين أشخاص، تتوسط فيها الصور". عبر هذه الأحداث إذن، هناك عملية، هناك "علاقة اجتماعية". وتراكم الصور/الاستعراضات يؤدي إلى إبعاد الأشخاص عن واقعهم المُعاش عن طريق التأكيد المستمر للوضع الاستعراضي.

تَنظيم كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا لم يكن اعتباطيًا إذن. فجنوب أفريقيا بلد غني وشعبه فقير، أيّ أفضل تمثيل لاستغلال الإنسان للإنسان عن طريق الاستثئار بالموارد الطبيعية. لقد انتهت أسطورة المجتمع الديمقراطي ما-بعد-الآبارتايد، والآن أصبحنا نرى في المجتمع الجنوب الأفريقي "الجرائم الهمجية"، وجرائم الاغتصاب والسرقة والنصب والاغتناء الفاضح لقلة قليلة من الناس وانهيار الخدمات الأساسية واستمرار العنصرية وغياب الأخلاق العامة.

إذا لم يسمح الوضع السياسي الاقتصادي للبلد بإيجاد طريق جديدة، فالمؤسسة الرياضية حاضرة دائمًا لجعل الناس يؤمنون بمولد مجتمع جديد أكثر عدلاً وانفتاحًا. هذه هي حالة كأس العالم للرغبي في 1995 الذي نظمته جنوب أفريقيا.

وعلى كأس العالم 2010 ترتكز الخطابات نفسها وإستراتيجيات التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والمصالحة التي لا تنتهي بين سكّان جنوب أفريقيا. مع ذلك، لن تستفيد أيّ من هذه "القطاعات" بأي شيء من كأس العالم. أيّ أفريقيا ستستفيد من هذه الكأس؟ أفريقيا التي تفجّر فيها الفقر على مدار العقود الأخيرة؟ أفريقيا التي ثلث سكانها يعيشون بأقل من نصف دولار في اليوم؟ إفريقيا التي تتضاعف فيها الحروب الأهليّة؟ أفريقيا التي تأكلها المجاعات مثل مجاعة 2002 التي هددت أكثر من 14 مليون طفل ورجل وامرأة بـ"الموت الفوري" في مالاوي وزامبيا وشمال جنوب إفريقيا وبوتسوانا وليسوتو وأنغولا وبعض مناطق زيمبابوي؟ أفريقيا المبتلاة بالإيدز؟ بأيّ كأس عالم يتعلق الأمر؟ كأس العالم للعنف، والفقر وكراهية الأجانب والانتهاكات؟ أم كأس العالم للشركات الغربية الكبيرة والرأسمالية المنتصرة؟

كأس العالم لكرة القدم يُنَظّم بين بنادق الشرطة والجيش والميليشيات الخاصّة والأسلاك الشائكة التي تملأ المناطق المحميّة التي لا تستطيع العامّة الولوج إليها. الفصل الاجتماعي الذي حلّ محل الفصل العنصري هو جزء من تزايد الجرائم. تُعرَف مدينة جوهانسبرغ بأنها إحدى "عواصم العنف في العالم"، كما أن فيها فوارق اقتصادية واجتماعية كبيرة، وتحدث فيها انتهاكات عديدة: عنف وفقر واتجار في المدخرات وفساد وجرائم ومرض الإيدز وجرائم قتل واغتيال واغتصاب. وخلف كل ذلك، يختفي البؤس الذي يعيشه سكّان البلد، وهم يشهدون تعاظم اللامساواة يومًا بعد يوم.

في هذه الأجواء، كأس العالم هو فُرصة، كأي تنظيم رياضي لحدث عالمي، لزيادة قوات الشرطة وعسكرة الأماكن "لتضييق الخناق على المجرمين". كما تُنفق أموال باهظة على أعمال التأمين والتسليح والتفتيش. جنوب أفريقيا لا تقدر على الاستثمار في الحدّ من الفصل العنصري، ولكن، بتأثير كرة القدم، تستثمر في عسكرة الأماكن. وهذا يُطبَخ، من جهة أخرى، بشكل انسجامي رائع بما أن العالم، الذي يجد مشقّة في دفع مساعدات للقضاء على الأوبئة والفقر المدقع والمجاعات أو إسقاط الديون عن الدول الأكثر فقرًا، يتعاون بشكل رائع عندما يتعلق الأمر بكرة القدم وبتدعيم الشرطة.

هناك تزايد لأعمال العنف المتكررة في جنوب إفريقيا منذ انطلاق كأس العالم لكرة القدم. وكما هو متوقع: قُمِع الاستياء. موظفو الملاعب، الذين انخفضت رواتبهم للنصف في أيام المباريات الخالية من المباريات في حين لم تنخفض ساعات العمل، خرجوا في مظاهرات سرعان ما قمعتها الشرطة مُطلقةً رصاص كاوتشوكي وغاز مسيل للدموع. نُقل العديد من موظفي الملاعب للمستشفى وماتت سيدة، حتى لو كذّبت الفيفا (لماذا تكذب الفيفا؟) هذا الخبر. وخوفًا من عدوى المظاهرات، طلبت الفيفا أن تتولى الشرطة أمر الملاعب.

ينظّم كأس العالم إذن أماكن العنف والنظام البوليسي، ولا يسمح بأي "مصالحة" سوى تلك الموجودة في خيالات الصحافيين الرياضيين الذي يرتادون الملاعب لا شوارع جنوب أفريقيا.

المساهمون