كرة القدم في مصر: جمهورية الـ 90 دقيقة

كرة القدم في مصر: جمهورية الـ 90 دقيقة

08 ديسمبر 2016
(أطفال عين حلوان بضواحي القاهرة، الصورة: Getty)
+ الخط -

لا تكاد الشوارع المصرية تخلو من مشاهد أطفال حوّلوا الجدران والأرصفة إلى ملاعب لكرة القدم، تراهم يركضون خلف الكرات المطاطية الصغيرة، ولا قواعد في هذه اللعبة، سوى أن تتخطى الكرة الحواجز التي حدّدوها في مخيّلتهم، وحين يتم إحراز الهدف، يطلق الصغار صيحات النصر، مُقلدين معلقي المباريات الكروية على التليفزيون.

أذكر أننا كنا نصنع كرة القدم من الجوارب المهترئة، وتعمل أمهاتنا على ترقيعها بعناية حول بعضها وحشوها بقطع الأقمشة البالية. قد يحالف الحظ أحد اللاعبين الصغار، ويعرف الطريق إلى الفرق الكبيرة في الحيّ أو المنطقة، والتي تلعب مباريات مع فرق الأحياء الأخرى في إطار التنافس داخل الدورة الرمضانية، أو الدورات التي تنظَم بشكل ودّي، وتوزّع جوائز بسيطة على الفريق الفائز، والتي لا تتعدى علب البسكويت، وصولًا إلى طقم من الأكواب أو قميص لاعب كرة قدم في أحد نوادي الدوري الممتاز. هناك أيضًا سماسرة لتنظيم المباريات ونقل اللاعبين من حي إلى آخر، حيث يحاول مدرب فريق ما، استمالة لاعب ماهر من حي مجاور مقابل هدية.

البحث عن الفرح
يكون هذا اللاعب الصغير محظوظًا أكثر؛ لو وجد مكانًا في فريق نادي الشباب التابع له، أو في فريق من فرق الدرجة الثالثة، فيعرف طريق المباريات التي تقام بين مدن وقرى المحافظة الواحدة، هذا دوري لمراكز شباب محافظة الجيزة، وآخر لمراكز شباب محافظة أسيوط وغيرها. عادةً يتعامل اللاعبون والمدربون في هذه الفرق بمنطق الهواة، فلكل منهم عمله الذي يأكل منه عيشه، لكن كرة القدم هي الرفاهية والتسلية المحمومة لأبناء الطبقات الفقيرة. هناك لاعبون محظوظون جدًا يستطيعون إيجاد منفذ يدخلون منه إلى ناد من نوادي الدوري الممتاز، الاتحاد السكندري أو المصري أو الإسماعيلي، واللاعب الذي ينتقل إلى الأهلي أو الزمالك فكأنه وجد بيضة ذهب.

هناك وَلَع بكرة القدم، يظهر في كل مكان ومع كل مباراة كبيرة، تستطيع أن ترى ذلك في الحشود على المقاهي في أوقات المباريات وفي الاحتفالات بعد كل مباراة تكلّل بالنصر، كانت آخرها الاحتفالية الضخمة التي خرجت للشوارع بعد فوز مصر على غانا في تصفيات كأس العالم، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

تفسّر سوسن فايد، أستاذة علم الاجتماع في المركز القومي للبحوث، ولع الناس بكُرَة القدم، بأن هناك شعورًا بالانتصار يتسرّب إلى الجماهير عقب الفوز في مباراة كرة القدم، وذلك لأنها تبث فيهم روح الجماعة والانتماء والقوة، وتعطيهم إحساسًا بأنهم مؤثرون وقادرون على صناعة النصر. مضيفة أن السبب وراء ذلك هو ما تعوضه لهم اللعبة من افتقاد القدرة على تحقيق أحلامهم وأهدافهم، إلى جانب افتقادهم للإمكانيات الفردية والجماعية، وعجز النظام السياسي عن تلبية احتياجاتهم، فيشعر المواطن البسيط بأنه حقق كل شيء من خلال انتصار فريقه المفضّل.

أستطيع فَهم هذا التحليل خاصةً أن المباراة كانت بعد يومين من تاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني، الذي شهد دعوات إلى ثورة ثانية، أطلق عليها ثورة "الجوع" بسبب الظروف الاقتصادية الطاحنة، على خلفية القرارات القاسية التي يتخذها السيسي في حق الشعب، لكن التظاهرة انتهت بالفشل، فجاءت المباراة لتخرج كل طاقة الغضب على شكل كرنفال كبير يجوب شوارع القاهرة كلها، كنا سعداء بالنصر ونشعر بالغضب على كل شيء.

قدّمت المصادفة هنا معروفًا للنظام المصري، لفك الاحتقان الذي كان موجودًا في الشارع، لكن الحديث يمتد عن وَلَع المصريين بكرة القدم واستغلاله من حكام مصر، من أول الملك فاروق حتى مبارك.


أقوى من الموت
يبرز في هذا الموضوع، الحديث عن تاريخ 2 فبراير عام 2006، اليوم الذي غرقت فيه عبّارة "السلام 98"، وراح ضحيتها المئات من المصريين، لكن مبارك الابن، الذي كان يحضّر نفسه ليرث كرسي الحكم، ترك الجثث تطفو على سطح البحر الأحمر، ليذهب إلى مباراة نهائي كأس الأمم الأفريقية، فأشعل المدرّجات بهتاف باهت "زي ما قال الريس، منتخب مصر كويس"، وعلى الرغم من فظاعة الحدث و"غباء" النظام وشعاراته، فإن عيون وقلوب المصريين زاغت مع الساحرة المستديرة.

بعد ست سنوات تمامًا وفي التاريخ نفسه من عام 2012، كان هناك استغلال آخر من النظام لكرة القدم، حيث رفع النظام بطاقته الحمراء للانتقام من ثورة 25 يناير. ولتكون الضربة مدوية، دُبِرت "مذبحة" أثناء مباراة بين فريقي الأهلي والمصري، ليتم اغتيال أكثر من سبعين شخصا من مشجعي النادي الأهلي داخل المدرجات، ويظل هذا اليوم الأكثر رُعبًا في تاريخ الثورة.

وتذهب الآراء إلى إدراك النظام حيوية الدور الذي لعبه ألتراس أهلاوي أثناء الثورة وهتافاتهم المنظمة ضد الشرطة والنظام، والتي اتخذت منحنى مباشرا في المواجهة في سبتمبر 2011، في مبارة الأهلي وفريق كيما أسوان التي غنى فيها الألتراس ضد وزارة الداخلية تحديدًا، وهزت أغنيتهم مدرجات النادي، وتم تداول فيديو مصور للأغنية على وسائل التواصل الاجتماعي، كانت الأغنية تقول:

" كان دايما فاشل في الثانويه،

يا دوب جاب 50 في الميه

بالرشوه خلاص الباشا اتعلم وخد شهاده بـ 100 كليه

 يا غراب ومعشش جوا بيتنا بتدمر ليه متعه حياتنا

مش هنمشي علي مزاجك ارحمنا من طلة جنابك

لفق لفق في القضيه

هي دي عادة الداخليه

ممسوك مكتوبل إرهابي دولي

 ماسك شمروخ وبغني أهلي"

حشدت هذه الأغنية الجماهير في الشارع، خاصّة أنها سبقت محاكمة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بيوم واحد، ووقعت يومها اشتباكات عنيفة بين الشرطة والألتراس، انتهت باعتقال 9 من أفراد المجموعة تم اتهامهم بإثارة الشغب والاعتداء على قوات الشرطة، كما تم قتل أحد المشجعين. وفي الصباح التالي تحرّكت رابطة الألتراس نحو المحكمة إعلانًا منهم بمساندة الثورة.

أخذت الداخلية الضوء الأخضر للانتقام بعد مباراة الأهلي مع المقاولون العرب في 28 يناير 2012، لأن الألتراس صعّد هتافاته ضد المجلس العسكري أيضًا ورفعوا شعار "يسقط يسقط حكم العسكر"، فكانت "مذبحة" بورسعيد بعد هذا التاريخ بأربعة أيّام.


النفس الأخير

اللافت للانتباه، أن تواريخ المباريات كلها تتزامن مع أحداث سياسية متوتّرة، سواء 28 يناير الذي يواكب جمعة الغضب، أو 2 فبراير الذي يواكب موقعة الجمل.

واعترافا بأهمية الكرة، ظهر علم اجتماع كرة القدم، والذي يحلّل الشخصية الوطنية بناءً على نوعية اللاعبين والمشجّعين، فالشخصية الوطنية تظهر جليًا في طريقة أداء المنتخبات، فنجد أداء الفريق المصري مثلا يتّسم بالكسل، والتحوّل من الهجوم إلى الدفاع إذا ما أحرز هدفًا واحدًا، وهذا يفسر الشخصية القدرية القنوعة. على عكس الفريق الياباني أو الألماني الذي يلعب المباراة لآخر دقيقة وكأنه مهزوم حتى لو كان منتصرًا، حيث تتسم هذه الشخصية بروح القتال والدفاع إذا ما أحرز هدفًا واحدًا.

هناك مثلا؛ الشخصية الأفريقية التي تتسم بالهدوء والطيبة يأتي لعب فرقهم يتسم بالسلاسة، وتتسم فرق أميركا اللاتينية بخفة الحركة وسرعة الأداء، بما يتفق مع شخصية شعوبهم التي تحب الرقص.

كما يعبر أداء المشجعين أيضًا عن الشخصية الوطنية لبلادهم، فالروح الكرنفالية لشعوب أميركا اللاتينية لا تغيب عن مشجعي أميركا اللاتينية في المباريات، أما الشعوب الأفريقية فتحوّل مدرّجات كرة القدم إلى حلبة رقص، سواءً كسب أو خسر فريقهم.

والجدير بالملاحظة، هم المشجعون الإنكليز الذين يتميزون بالشغب والعنف، سواء كسب أو خسر فريقهم المباراة. ويرى البعض أن سبب هذا العنف هو النظام الأخلاقي الصارم الذي تفرضه إنكلترا. أما المشجعون المصريون فيتميّزون بروح التظاهر التي تفرغ الغضب المكتوم.

لا أحد يستطيع إنكار أن كرة القدم تخطت كونها مجرد لعبة، حيث إنها اللغة التي يفهمها الشارع وأبناؤه، هي التي تستطيع أن تحزنهم.. وتستطيع أن تفرحهم.

المساهمون