كرة القدم: ديانة تبحث عن إله جديد

كرة القدم: ديانة تبحث عن إله جديد

19 ديسمبر 2016
(نصب تذكاري لمباراة الهدنة بعد الحرب العالمية، الصورة: Arterra)
+ الخط -
هل كان سينجح سيلفيو بيرلسكوني في أن يصبح رئيس وزراء إيطاليا، دون مساعدة من نادي إيه سي ميلان ولاعبيه الأسطوريين: فان باستن، ورود خوليت، وفرانك ريكارد؟

لقد كان يملك بلا شك عددًا ضخمًا من وسائل الإعلام الجماهيرية، فضلًا عن أنه كان يتمتع بطَلّة مُترفِعة ومظهر يليق بالتلفزيون، وهو ما يروق كثيرًا لمُغامري ما بعد الحداثة؛ ولكن الشباب في وقت التصويت لبيرلسكوني انتخبوا قبل كل شيء رجل الأعمال "الرابح" والمُخطِط الرائع لانتصارات الميلان المجيدة.

الفارس، وهو لقب بيرلسكوني، يُجَسّد أيّما تجسيد تلك المجموعة من مُحدثي النعمة الذين يشتهون رئاسة ناد رياضي عريق للانخراط في الحياة السياسية. كثير من رؤساء الأندية مثله يأتون من مجال العقّارات حيث يغتني الناس سريعًا وبطرق وحشية عادةً.

كان رؤساء الأندية في ما مضى تعلوهم السُلطات السياسية، والاقتصادية، والدينية، بل وحتى الجامعية، وبالتالي لم تكُن رئاسة الميلان أو أولمبيك مارسايّ بالشيء العظيم؛ أما اليوم، فهي تستحق؛ فأقل مسؤول في النادي له ثقل اجتماعي يفوق أعلى سُلطة، كما أن قدرته على تعبئة الحشود أكبر بطبيعة الحال. لهذا السبب، يتجنب السياسيون أكثر فأكثر الدخول في صدامات مع الأندية الرياضية، لأنهم لا يقوون على مواجهة ناخبين بذلك التنظيم وتلك الحدة.

إن الخوف من البطالة قد لا يؤدّي إلى استيلاء جديد على قصر الباستيل؛ لكن من ناحية أخرى، التعرُض لمُشجعي أحد الأندية الرياضية يعني المُخاطرة بإمكانية أن يتعرّض قصر الشتاء لاقتحام جديد. لا يجب أن ننسى أن خلافًا عرقيًا كرويًا فجّر الصراعات اليوغوسلافية، وأن مُجرّد تهديد إداري بسيط لناد محلي وضعت حرفيًا كُل أهالي مدينة إشبيلية على أهبة الاستعداد للحرب في مايو/ أيّار 1996.

لعالِم الأنتروبولوجيا أن يقول إن القادة السياسيين يُديرون ما يقرّره الآخرون (الأسواق)؛ فرؤساء الأندية يعلمون النظام السري للفوضى والإرادة الكامنة للجماهير، ذلك أمر كان حكرًا على الأديان فقط، أو دور كانت تلعبه الأديان حصرًا، ولكن هل لنا أن نقول مع ذلك إن كرة القدم تحتل الفضاء الرمزي الذي تركته السياسة أو الديانات الكُبرى خاويًا؟

يبدو أن علماء الاجتماع، غير المهتمين بالطابع الديني لكرة القدم، لا يرتاعون إلا للعُنف الذي يقوم به بعض المشجعين الذين يتحوّلون في مناسبات المباريات الجماهيرية إلى مغاوير. يضم كل ناد في طياته الطبقات الاجتماعية المختلفة، ولكنه يعهد إلى كل منها بمُهمة معينة: فالمنصة الرئاسية تُخَطِط، والجماهير البرجوازية الصغيرة تُشَجِّع، والكتائب الآتية من ضواحي المدن تُهاجم.

بل يذهب بعض رؤساء الأندية إلى حدّ تمويل المجموعات العنيفة، وحثها على إثارة أدرينالين اللاعبين - المقاتلين، حيث لا يلتفت علماء الاجتماع إلا إلى تلك الكتائب التي ترتدي فانلة الفريق المعشوق تعبيرًا عن الحب والانصهار، ولا يلاحظون أن الأمر يتعلق بمشاركة حقيقية مع الفِرَق المُبجّلة: ميلان، أولمبيك مارساي، برشلونة...

قادت أعمال التخريب في كرة القدم إلى ظهور كمية كبيرة (غالبًا غير مفيدة) من الأدبيات السريرية، يُستَشهَد كثيرًا ببيل بودفورد، الكاتب الأميركي ومؤلّف كتاب "بين المخربين" Among the Thugs، وفيه يقصّ علينا، بعد أن ادّعى أنه أحد المشاغبين Hooligan، كيف أنه تم قبوله في عصابة مشجّعين مفرطي العنف وكيف أنه في النهاية صار مفتونًا برفاقه.

كان بودفورد ضحية لمتلازمة الكاتب الذي يبحث عن "الهمجية الفاتنة الرمزية"، وكان إرنست همنغواي هو الآخر يُعاني من المرض ذاته، إذ كانت تجذبه مصارعة الثيران، والحروب الأهلية، والثورات، وصيد الحيوانات البريّة الكبيرة.

هناك أيضًا أعمال جون كلارك ويان تايلور، هذا الأخير يرى منذ 1971 أن العنف كان من صنع الشباب المهمّشين الذين كانت تغضبهم فكرة تحوّل كرة القدم إلى البرجوازية وابتعادها عن أصولها الشعبيّة، كان تايلور وكلارك هما أوّل من أثبتا أن الغضب في المدرّجات لم يكن أمرًا غير عقلاني، فالأمر هنا يتعلق بحالة عنف نادرة لا تحتكرها الدولة. يؤكد بيتر مارش مثلًا أن عنف المتعصبين ينطوي على "رمزيّة": فهو يمنع انفجار الغضب الذي من شأنه توليد أزمات اجتماعية، ويجد آخرون عند "المشجّع المتعصّب" وحشيّة وحنان الذئاب: شراسة ضد الآخرين، ورقّة بين أعضاء جماعته.

يرى البعض في هذا العنف فشل اللاهوت الأمني، في هذا العالم الفوضوي، هل يمكن أن يوجد العزاء الوحيد في هذه الديانة العلمانية الجديدة؟ في الاستاد - الكاتدرائية أم في النادي - الحزب؟ هذه الوثنية الحديثة تتطلب أن يتحلّى لاعبو كرة القدم في العالم بصفات ملحميّة على غرار الآلهة القديمة، غير أننا نعيش في عصر دون أبطال، في عصر غير ملحمي.

ولقد تغنّى الأدب كثيرًا بكرة القدم؛ افتتن شعراء كبار بهذه الرياضة وبجمال المنافسة فيها وبمهارة وسحر لاعبيها. هنري دو مونترلان مثلًا خصّص قصيدة لحارس المرمى سمّاها "مشاعر الوحيد". وكتب الشاعر الإسباني الكبير رافايل آلبرتي، صديق غارسيا لوركا، في العشرينيات قصيدة لبلاتكو، حارس مرمى برشلونة: "لن ينساك أحد أبدًا، يا بلاتكو، أبدًا، أبدًا، أبدًا. يا دب هنغاريا الأبيض". وألّف البرازيلي الشهير فينيسيوس دو مورايس سامبا على شرف غارينشيا.

وعلى النقيض، فإن أغلب المثقّفين تجاهلوا كرة القدم بل وشيطنوها. فهم يصفون انتشار كرة القدم بالكارثي، حيث يدّعون أنهم يرون فيها ما يقلقهم حيال تلاشي فكرة التمرّد عند الجماهير.

وبفضل الأرجنتينيين أصبحت لكرة القدم فلسفة. نشر جورج فالدانو، اللاعب السابق والمدرّب، مجموعة قصصية عن كرة القدم. كما كتب إدواردو غاليانو كتابًا مرموقًا عن تأملاته حول كرة القدم: "كرة القدم بين الشمس والظل". في أميركا اللاتينية، دائمًا ما تأخذ المقابلة بين المدرّب سيزار لوي مينوتي، وجورج فالدانو، وآنجل كابا، وماريو بينيديتي، وإدواردو غاليانو شكل جدل فلسفي متوهّج ومتألّق.

مينوتي هو أوّل فيلسوف لكرة القدم، هو معلّم سقراطي في انتظار فالدانو الأفلاطوني، أما آنجل كابا فقد قفز من فيورباخ إلى هابرماس. هؤلاء حاولوا حتى تعريف كرة قدم يسارية وكرة قدم يمينية، يؤكّد جورج فالدانو أن "كرة القدم المبدعة تنتمي إلى اليسار، بينما تنتمي كرة القدم العنيفة والغشاشة والوحشيّة إلى اليمين"، ويرفض هؤلاء المفكرون اعتبار كرة القدم "ديانة علمانية" بل يرونها تنتمي إلى العقلانيّة.

ولكن هل توجد ديانة - حتى لو كانت علمانية - دون إله؟ يرى البعض أن هذا الإله هو رونالدو. وقد أبرز قدراته أثناء مباراة برشلونة ولاكورونيا في مايو/ أيار 1997، حيث كان نادي برشلونة يلعب على أرضه، ويريد أن ينتزع لقب المركز الأول من ريال مدريد، ولكن كان يلزمه أن ينتصر على لاكورونيا مهما كلّفه الأمر، قبل دقائق من نهاية المباراة، كان التعادل هو سيد الموقف، وكان رونالدو يلعب في خط هجوم برشلونة، ولكن كل هجماته كانت تصطدم بحائط لاكورونيا الدفاعي الصلب الممتاز.

رونالدو يحاول ويحاول، لكنه يسقط أرضًا. يقولون إنه هُزِمَ. يحاول أن يبحث هنا وهناك عن أية فرصة. فجأة تجيء الكرة أمام رونالدو من خطأ لاعب الخصم وكأنها تدعوه أن يرقص السامبا معها. اللاعب يلبّي النداء ويقوم قافزًا. يأخذ الكرة على طرف حذائه ويرمي بصره ناحية مرمى الخصم. هذه هي لحظة رونالدو، هذه اللحظة السحريّة التي يستطيع فالتر بنيامين وحده وصفها، يتخيّل رونالدو الممرّ الذي يقوده للهدف، ويبدأ مشواره، يراوغ الخصوم الذين يحاولون إعاقته، ثم يواجه الحارس الذي كان متقدمًا كثيرًا، ويسجّل هدفًا بأعجوبة...

مهّد الصحافيون طريق المجد لرونالدو ناعتين إيّاه بصفات مذهلة على شاكلة "نشوة كرة القدم"، أو "الشِعر مُتحرّكًا"، ولكن رونالدو ليس مجرّد اختراع إعلامي. اليوم، الأندية الأكثر ثراءً تريد رونالدو، خاصّةً إنتر ميلان، ولا يدري برشلونة كيف يحافظ على كنزه الثمين، وهو ما يثير غضب إسبانيا كلها، حتى مشجعي ريال مدريد، المنافس الخالد لبرشلونة، عبّروا عن رغبتهم في أن يبقى رونالدو في إسبانيا، ليس بدافع ماسوشي، ولكن بدافع من الكذب المرضي، كي تُبقي الكرة الإسبانية على "أعظم لاعب في وقتنا".

لطالما احتاجت صناعة كرة القدم إلى آلهة لتنمو وتزدهر، وقعت هذه المهمة الرمزيّة لعقود على عاتق دي ستيفانو، وبيليه، وكرويف، ومارادونا، ولكن يجب على أي صناعة أن تجدّد أساطيرها: اختارت "الفيفا" رونالدو وريثًا إلهيًا لمارادونا، على أن يتسيّد على عرش ديانة كرة القدم، دون كوكايين. رونالدو هو أسطورة صنعتها "الفيفا"، ولكن لا توجد ديانة دون إله، وعَرش الإله ظلّ خاويًا منذ أن دمّر دييغو مارادونا نفسه.


(النص الأصلي لـ: مانويل فاسكيث مونتالبان)

المساهمون