قسطل..."أفخاخ" بناها الرومان لأحفادهم الفرنسيين

قسطل..."أفخاخ" بناها الرومان لأحفادهم الفرنسيين

11 ديسمبر 2016
(ما تبقى من الجسر الروماني المؤدي إلى قسطل/ الجزائر)
+ الخط -
على بعد أربعين كيلومترًا شمال ولاية تبسة (شرقي الجزائر)، تقع منطقة قسطل الأثرية، وهي قطعة مهرّبة من جغرافيا وتاريخ الإنسان القديم، بقيت شاهدة على الحضارات المتعاقبة عليها، ولم يطرأ عليها كثير من التغيير حتى اليوم؛ فهي أشبه اليوم بسلّة تاريخية تحتفظ بسواقيها الحجرية الجارية بالمياه، وقبور الدولمان (المدافن المهيأة بالفخار لحياة ما بعد الموت)، والحوانيت أو الغرف الجنائزية المحفورة في الصخور.

اشتقّ اسم منطقة قسطل من الكلمة الفرنسية (la castel)، والذي يعني القلعة، فيما يرى مؤرّخون أن معنى التسمية هو "أرض استخراج الماء"، نظرًا لغناها بمنابع المياه، مما جعلها قبلة لكل حضارات الإنسان، حيث يعود تاريخ وجود هذه المنطقة إلى سنة 6800 قبل الميلاد، وتحديدًا إلى ما يعرف بالحقبة الحجرية؛ فبعد دراسة آثارها عُثر على هياكل عظمية للإنسان القديم، داخل كهوفها و جبالها التي رسمت صورة لافتة لكل المراحل والحضارات التي تعاقبت عليها.


أرواح الجبل
إن أوّل ما يلفت انتباهك عند وصولك إلى قسطل، هو جسر صغير يعود إلى الحقبة الرومانية، لا يزال محافظًا على تماسكه رغم مرور مئات السنين على تشييده، إذ يربط بين ضفتي الوادي الذي يشقّها، ويكفي أن ترفع مستوى نظرك للأعلى نحو جبالها، حتى تلوّح لك الأرواح التي تسكن قبورها ومغاراتها المحيطة بالوادي، حيث تتراصف تلك المغارات بدقّة إلى جانب بعضها البعض، ويقدّر عددها بـ 36 مغارة، تحوي غرفًا حجرية ذات أبواب مربّعة يرجّح مؤرّخون أن تكون قبورًا رومانية.

وفوق تلك القبور توجد غرف أخرى تضم أبوابًا مثبتة بإحكام إلى الأعلى بواسطة عوارض ملتصقة في الصخور، وكّأنها أبواب وجدت لتفتح إلى السماء، وبالقرب منها بالوعات حُفرت لمنع تسرب المياه إليها، وهو ما يدلّ على العبقرية الهندسية للإنسان الذي استوطنها.

الطريق المؤدّية إلى المنطقة، شقّتها جداول الماء فوق الصخور الكبيرة فجعلت منها ممرًّا يسير في اتجاهات ملتوية في غاية الجمال، وأما الجهة المحاذية لهذا الطريق، تطلّ عليها المنطقة البربرية التي تتميّز بمنحدراتها الصعبة، ولا يوجد سوى مسلك واحد للوصول إليها من الجهة الشرقية، حيث توجد مقبرة أخرى صمّمت بطريقة مشابهة، وهو ما يجعل الطابع الجنائزي غالبًا على معمارها.


حصن الثوّار
بين أطلال قسطل، يروي التاريخ أيضًا قصص مقاومة الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، حيث كانت هذه المنطقة الصغيرة إحدى القلاع الحصينة لثورة التحرير الجزائرية، وداخل بيوتها الضيّقة المنحوتة في الصخور بطريقة متقنة، كان يختبئ صنّاع الثورة التحريرية، لصعوبة مسالكها على الجيوش الاستعمارية. حيث دارت على أراضيها عدة معارك ضارية، من أشهرها معركتا "عين عناق"، بقيادة محمود قنز، ومعركة "القرقارة" حيث  تكبّد الجيش الفرنسي الخسائر في الأرواح والعتاد، وقد ساعد الموقع الجغرافي لقسطل الواقع على الحدود الجزائرية التونسية الثوّار، على التزود بالأسلحة والإمدادات اللازمة لذلك، وكأن روما حين بنت هذه المنطقة، لم تكن تدري أنها بنت أفخاخًا محكمة لأحفادها الفرنسيين.

التقينا في هذه الرحلة امرأةً بلغت من العمر عتيًا، لكنها لا تزال تحتفظ بتفاصيل تلك الحقبة وكأنها حدثت البارحة، وهي تروي لـ"جيل" عن الأحداث التي ميّزت فترة من أهم مراحل الثورة الجزائرية، كانت جالسة أمام منزلها الصغير وفي يدها مسبحة، وعندما سألناها عن تاريخ المجاهدين وما تعرفه عنهم، ابتسمت قائلة "هذه بلاد الرجال الصناديد الذين لقّنوا المستعمر درسًا لم ينساه رغم قلّة إمكانياتهم، إلا أن شوقهم إلى الاستقلال، مكّنهم من النصر مرّات عديدة هنا، ماذا أسرد لك يا بنيّتي؛ لقد كنت من بين النسوة اللاتي يعددن الطعام والزاد للمجاهدين ويشققن طريقهن رغم صعوبة تضاريس المنطقة لإيصال المؤونة إلى المجاهدين في قسطل".

ما تعرفه هذه المرأة الطاعنة عن هذه المنطقة، لا يتجاوز ربّما ما يتداوله كثير من أبناء المنطقة، حيث تستطرد قائلة: "إن هذه الأرض كما روى لي أجدادي، كانت معقلًا للرومان الذين تركوا آثارهم عليها كما تشاهدين، لقد اختاروها لتوفّرها على المياه، فقد سهّلت عليهم إنشاء مزارع للخضر وغيرها مما تُنبت الأرض، فكانت أحد المراكز القويّة للقيادة الرومانية آنذاك، ثم اختارها الثوّار الجزائريون، لأنها حصن طبيعي تحيطه الجبال من كل جانب، فكانت عبارة عن ثكنة صغيرة تضم جنودًا ومخازن سلاح".


بين الأمس واليوم
قسطل اليوم، وجهة للسياح المحليين من داخل ولاية تبسة وغيرها من الولايات المجاورة، ورغم إمكانياتها السياحية الهائلة والمواصفات التي تتميّز بها، وتؤهلها لتكون قطبًا سياحيًا وطنيًا وعالميًا، باعتبارها متحفًا مفتوحًا لآثار الإنسان ما قبل التاريخ، إلا أن الكثير من الناس لا يعرفونها، بسبب تجاهل المسؤولين والمختصّين في علوم الآثار لها ولموروثها الثقافي والحضاري. إن الإهمال ونقص المرافق، جعلا من تطوّر السياحة في هذه المنطقة أمرًا صعبًا، فحتى الطريق المؤديّة إليها، سلكناها بحذرٍ شديد لصعوبة منحدراتها.

أحد السكان المحليين أخبرنا أن الكثير من العائلات تقصد قسطل في نهاية الأسبوع وأيّام العطل، للإطلاع على آثارها والتمتع بسحرها، لكن أماكن الراحة والجلوس قليلة جدًا، فيضطر هو وبعض من جيرانه إلى استقبالهم في المنزل وإعداد الطعام لهم، لأن من عادات أهل هذه المنطقة الراسخة إكرام الضيف.

تتربّع هذه المنطقة الصغيرة على مساحات زراعية واسعة، تكسوها أشجار التين والرمان والسفرجل والجوز واللوز، يقول أحد الفلاحين في حديث إلى "جيل"، إنه لم يتلق أي دعم من الجهات المسؤولة، وإن حبه وعشقه للأرض التي وُلد بها هو الدافع الوحيد الذي يشجّعه على البقاء هنا والعناية بأرضه.

يضيف المتحدّث، أنه يتكفّل بمصاريف البذور والأسمدة لوحده، ويجلبها من المدينة على عاتقه، ويساعده في زراعتها والاعتناء بها بعض أبنائه وعند جني المحصول يبيع جزءًا منه ويحتفظ ببعض منه لعائلته التي تتكون من ستة أفراد، ويترك جزءًا منه لأصدقائه القادمين من المدينة خصيصًا للحصول على الفواكه والخضر التي يجنيها، لجودتها العالية، وهو أمر ناتج عن المياه النقية التي تتدفق على هذه الأرض.

لم يُخف هذا الفلاح امتعاضه من تجاهل المسؤولين "المتعمّد" لهذه المنطقة التاريخية الغنية بطبيعتها وتاريخيها، مؤكدًا حاجته وفلاحي المنطقة بشكل عام إلى التفاتة حقيقية، تستدعي الدعم اللازم من قبل الجهات الوصية من أجل توسيع المساحات الزراعية، لافتًا الانتباه إلى أهميّتها البالغة المتجذّرة في التاريخ، مطالبًا تدخّل والي تبسة، من أجل الاعتناء بقسطل التاريخ والحضارة والارتقاء، بها إلى مصاف الأقطاب السياحية في البلاد، لأن التفريط بحسبه "جريمة تاريخية لا تغتفر".

المساهمون