العمل: آلة التعذيب التي تشعرنا بالفرح

العمل: آلة التعذيب التي تشعرنا بالفرح

28 نوفمبر 2016
(في حقول البرازيل، تصوير: ماريو تاما)
+ الخط -

إذا سألت شخصًا لماذا يعمل، سيجيبك غالبًا بأنه يعمل ليكسب قوته وليحصل على الوسائل التي تجعله يعيش حياته بشكلٍ جيد. كما لو أن العمل هو الثمن الذي يجب أن ندفعه لنعيش ونبقى على قيد الحياة!. ثمن يكون أحيانًا ثقيلًا، عادةً ما يُرى العمل على أنه ألمٌ ومعاناة لا مفر منهما.

من هذا المنظور، يمكن تأويل العمل على أنه لعنة الإنسان ومصيره التعيس، غير أن الشخص ذاته الذي يخبرك بأنه يعمل ليكسب قوته، قد يُفضي إليك، بعد عدّة دقائق، بأنه يُحب عمله وبأنه مصدر رضا له على المستويين الشخصي والاجتماعي، إذ يشعر أنه يُقَدّم شيئاً ما.

هنا، نلاحظ نوعًا من الازدواجية بشأن العمل، حيث يمكن أن يُنظَر إليه كشكل من أشكال العبودية والاغتراب، وفي الوقت ذاته كمصدر من مصادر تحقيق الذات والحرية، ولو اعتبرنا العمل لعنة، فستبدو هذه اللعنة ضرورة ملحّة، بما أنها تؤدّي إلى اكتمال إنسانيّة الإنسان.


حيوان غبي
دون وجود ضرورة أن يعمل الإنسان، قد يبقى الإنسان "هذا الحيوان الغبي والمحدود القدرات" كما يقول روسو، أو قد لا يتخطّى الحالة المسالمة لــ"راعي أركاديا" التي تحدّث عنها كانط، وبناءً عليه، ما اعتبرناه في البداية لعنة قد يتّضح أنه نعمة؛ يبقى البحث عن الحل كي نتجنب أن ينحرف العمل عن بُعده التحرّري ليتحوّل لمصدر اغتراب وعبوديّة.

العمل هو النشاط الذي يدفع الإنسان إلى تغيير الطبيعة لتوفير احتياجاته، ولكن، كما يُشير ماركس، هذا الشكل من العمل يُعدّ بدائيًا وغير مكتمل. لا يُصبح العمل إنسانيًا إلا عندما يتعدّى كونه ضرورة حيوية لا غير، ليُصبح هو النشاط الذي عبره يخلق الإنسان عالماً يتعرّف فيه على نفسه، عالماً إنسانيًا بالكامل.


آلة تعذيب
فإذا نظرنا حولنا لن نجد سوى منتجات ناتجة عن العمل الإنساني، وهذا هو ما يجعلنا نشعر بأننا في مكان مألوف. فالإنسان هو ذلك الكائن الذي لا يكتفي بالطبيعة بشكلها الأوليّ، ولكنه في حاجة إلى تعديلها وإضفاء طابعه عليها كي يستطيع العيش فيها، وإذا كان العمل ضروريًا للإنسان من الناحيتين الجسمانية والأخلاقية، فذلك لا يمنعه من أن يكون أيضًا لعنة بوصفه ضرورة تعيسة.

يُحيل مصطلح اللعنة إلى فِعل أو إلى كلمة بواسطتهما يقوم كائن ما بجعل كائن آخر يعيش في الأسى والألم. ألا تنظُر الأديان التوحيديّة إلى العمل بهذه الطريقة؟ بعد أن عصى آدم الرب، جعلت كلمة الرب الإنسان في أسى وألم من خلال العمل، قال الرب للرجل : "بعرق وجهك تأكل خبزًا"، ثم قال للمرأة : "بالوجع تلدين أولادًا"؛ في الحالتين، استُخدِم مصطلح العمل، الرجل يعمل ليُطعم نفسه ويُطعم أهله؛ والمرأة التي تلد، ألا نقول أنها تعمل أيضًا؟ يعود أصل كلمة العمل travail إلى الكلمة اللاتينية tripalium وهي آلة من آلات التعذيب.

إن المنبّه الذي يدق صباحًا لنستيقظـ، يُجسّد ربّما الطابع التقييدي للعمل؛ فبينما يطلب جسدنا الاسترخاء والهدوء، نجد أنفسنا أمام ضرورة خارجية تُلزمنا على التخلّي عمّا يحتاجه الجسم من راحة، وما أن نستيقظ أخيرًا حتى ندخل دوامة العمل، أي مواجهة عالم يقاومنا، وأرض نعمّرها، وآخرين يجب أن نتعامل معهم سواءً كنا رؤساء أو مرؤوسين، ولكن إذا كان العمل يسمح لنا بضمان إنسانيّتنا، فقد يكون أيضًا مصدرًا لظروف غير إنسانية مثل العبيد والأقنان والعمّال على شاكلة شارلي شابلن، في فيلم الأزمنة الحديثة، الذي كان ينفّذ عملًا ميكانيكيًا وتكراريًا.

العبودية والعمل
ازدواجية الطابع هذه التي يتّسم بها العمل تضرب بجذورها في التاريخ، إذا كنا اليوم ننظر إلى العمل، رغم طابعه التقييدي، على أنه عنصر مكوّن لكرامتنا، فهو لم يكن دائمًا هكذا في المجتمعات القديمة، كما في غالبية المجتمعات الأرستقراطية، إذ كان الرجل الحرّ هو الذي لا يعمل والذي يمتلك عبيدًا يقومون بالأعمال نيابةً عنه.

كان العمل يُرى إذن كنشاط حقير، لا كنشاط مُنتج وخلّاقي، ويجب هنا ألا نعكس الأسباب والآثار، كما تشير حنة آرندت في كتاب "وضع الإنسان الحديث"، فالعمل لم يكن مُحتَقَرًا لأن العبيد يقومون به، بل على العكس، بما أنه عُدّ نشاطًا حقيرًا فقد خُصِص للعبيد.

باختصار، كان العمل مخصصًا لمن كانوا في وضع متدنِ وبالتالي يجب أن يُعانوا نيابةً عن الآخرين، ولم يكن هناك من يعمل سوى الملعونون على الأرض، بيد أن هذا لا يعني أن الرجال الأحرار كانوا يعيشون في ترف تام دون أي عمل؛ بل كانوا يشتغلون بالعلوم أو الفلسفة أو السياسة، وأصبحت هذه الأنشطة مُتَضَمنة اليوم في عالم العمل، ما يعني أن رؤيتنا الحديثة للعمل تختلف جذريًا عن رؤية القدماء، كما أصبح العمل يُرى، برغم طابعه المُضني والمُلزِم، على أنه شرط حريتنا وكرامتنا. فماذا حدث كي يتغير الوضع؟.


النبلاء والحرّية
كما يوضّح هيغل في فكرته عن "ديالكتيك السيد والعبد"، فإن حرية السيد ليست في النهاية سوى وهمًا، وأنه في غضون بعض الوقت يُصبح العبد هو سيد هذا السيد، فالعمل أيضًا يخلق عالماً ويخلق الإنسان نفسه؛ نجد أن هناك احتياجات جديدة تظهر تحتاج منّا إلى ابتكار وسائل إنتاج جديدة، أي أدوات ثم آلات.

وبالتالي، لا يمكن فصل التقنية عن العمل، والنتيجة أن ثنائية السيد/العبد آيلة للفشل، بما أن العبد يعمل ويغيّر العالم بعمله، ثم يُعمل وعيّه ويجد حوله عالماً من إنتاجه، ثم يتعرّف على نفسه في هذا العالم، بينما يجد السيد نفسه غريباً عن هذا العالم ومعتمداً على العبد. إن الحرية الحقيقية ليست نفياً للعالم الخارجي ولكن، على العكس، هي قدرة الإنسان على تغيير العالم من حوله وعلى إضفاء وعيه الداخلي عليه.

وبناءً عليه، فالعبد الذي رأينا في البداية أنه مسحوق من لعنة العمل، ينتهي به الأمر إلى الحصول على حريته؛ بينما يُدير التاريخ ظهره للسيد ويجد نفسه في العراء، كما حدث مع طبقة النبلاء التي أطاحت بها طبقة البرجوازية الرأسمالية، ولكن إذا كان العمل له مثل هذه الأبعاد التحرريّة، كيف يُرى دائماً على أنه لعنة؟ كيف يرى السواد الأعظم من الناس العمل على أنه ألم وعذاب؟

نشعر بالسعادة عندما ننهي عملًا ما ونأخذ في تأمّل ما صنعته أيدينا، فعندما نتأمّل نتيجة عملنا فإننا نتأمّل أنفسنا بشكل ما، بما أننا ننظر من خارجنا إلى ما نبع أصلًا من داخلنا. ولكن هذا الطابع للعمل لا يوجد دائمًا، أي أن تنظيم العمل قد يٌسقط هذا البُعد ويختزل العمل في مجرد مهمة ميكانيكية لا تستلزم أي تفكير أو إبداع لإتمامها، وهو ما رأيناه في فيلم الأزمنة الحديثة نتيجةً للتايلورية. فـــــ"العمل المسلسل" يؤدّي إلى "العمل المجزأ" وفقًا لتسميّة جورج فريدمان، أي العمل الذي يبلغ من التفتت والتجزئة بحيث لا يصبح في النهاية عمل أي شخص، وبحيث لا يتعرّف فيه العامل على نفسه. يصبح العمل إذن اغترابيًا، وأمام نتاج مثل هذا العمل، يشعر العامل بأنه غريب وبأنه لا ينتمي إليه.

البعد الانساني
من هذا المنظور، لا يصبح العمل سوى وسيلة لكسب العيش، وهو شعار كان رائجًا في مظاهرت مايو 68: "يخسر حياته وهو يعمل". انطلاقاً من ذلك، الشعار "اعمل أكثر لتجني أكثر" أدّى إلى استفحال الأمر بطريقة سلبية إذ أعطى القيمة للمال على حساب العمل، وبالتالي انحدر العمل إلى منزلة نشاط لا قيمة له في ذاته، ونتيجة لذلك، فقد العمل بُعده التحرّري وبدلًا من أن يخلع على الإنسان صبغة إنسانية، يجعله غبيًا.

إن الاغتراب الحديث للعمل مصدره أنه من المفترض أن العامل حُرٌّ في اختيار عمله في إطار تعاقدي مع صاحب العمل، ولكن في حقيقة الأمر، هذه الحريّة نظريّة، بما أن العامل لا يمتلك الخيار، لأنه ليس في نفس مرتبة صاحب العمل، فيصبح مضطرًا لممارسة عمل لا هدف له سوى أن يبقيه حيًا. هذا الوضع، من جهة أخرى، يؤدّي إلى اعتبار أن وقت الفراغ ما هو إلا مصدر اغتراب وإلى اختزاله إلى مجرد تسليّة واستهلاك بدلًا من اعتباره نشاطًا حرًا يُسهم بدوره في تحقيق الذات.

يجب إذن، كي نكف عن اعتبار العمل لعنة، أن نعيد التفكير في تنظيم العمل بطريقة تسمح لكل شخص بأن يجد في عمله أكثر من مجرد مصدر لكسب عيشه، بل أن يجد فيه تحقيقاً لذاته، ولإعطاء معنى للعمل، يجب إعطاء العاملين المزيد من الاستقلالية كي يشعروا بقيمتهم وكي يكفوا عن اعتبار العمل نفيًا لوجودهم. مثل ذلك الأمر يجب أن تصحبه مراجعة كاملة لرؤيتنا لوقت الفراغ، وللتفكير في الوقت غير المخصّص للعمل بوصفه وقتًا مخصصًا لأنشطة تجد غايتها في ذاتها، بدلاً من اختزال وقت الفراغ إلى وقت مُخصص للاستهلاك ولتسليّة كثيرًا ما تكون دون جدوى.


(النص الأصلي لـ: إريك دولاسوس)

المساهمون