كرة القدم.. أفيون الشّعوب

كرة القدم.. أفيون الشّعوب

26 نوفمبر 2016
(الأموال المتدفقة إلى كرة القدم مصدرها الرعاة والعائدات التليفزيونيّة)
+ الخط -

مقابلة موقع Mouvements مع نويل بونس، مفتش ضرائب سابق ومؤلّف كتاب "ياقات بيضاء وأياد قذرة".


- كتب الصحافي دوني روبير، المتخصص في الجرائم المالية، أن "كرة القدم أصبحت وسيلة رائعة لغسيل الأموال". هل تشاركه الرأي؟
* نعم، أشاركه الرأي تمامًا. فالمال يدور سريعًا في كرة القدم، الأمر الذي جعل منها مجالًا خصبًا لإيداع كميات مهولة من الأموال الاحتياليّة واستمرار زيادة الأموال الموجودة بالفعل. ولكن إحقاقًا للحق؛ فكرة القدم لا تختلف كثيرًا في هذا عن باقي مجالات الاقتصاد.

غسيل الأموال عمومًا ليس إلا نتيجة سلوك مُخالف للقانون. في السابق، وحدهم تجّار المخدرات هم من كانوا يلجؤون لغسيل الأموال، ولكن منذ أن بدأت الشركات هي الأخرى في الاحتيال بكثرة فقد بدأت تحتاج إلى غسيل أموالها.

كرة القدم تمثّل إذن طريقة عمل الاقتصاد حاليًا. وقد تدهور الوضع مع أزمة 2008 لأن كثيرًا من الكيانات الاقتصادية التي كانت في حاجة إلى أموال كانت على استعداد للتعامل مع أموال مشكوك في أمرها. ينطبق ذلك أيضًا على أندية كرة القدم؛ فالأندية الإسبانية يعاني نصفها من الإفلاس، لا سيّما موسم 2011-2012 حيث لم تستطع بعض الأندية دفع مستحقات لاعبيها لعدة أشهر. هذا لا يعني بالطبع أنه كلما تعرض أحد الأندية للإفلاس أصبح "مجرمًا"، فقد يهبط أيضًا إلى دوري الدرجة الثانية. الأندية عادةً تعاني من الإفلاس بسبب قياداتها؛ هذه القيادات التي "تشفط" أرباح النادي ستفعل كل ما بوسعها كي لا يهبط النادي إلى الدرجة الثانية وإلا سينفضح أمرهم.


- ما هي أكثر الوسائل المستخدمة في غسيل الأموال؟
* وسائل في غاية البساطة؛ يكفي أن تُضاعف سعر صفقة أحد اللاعبين عشر مرات مثلًا لأنه من السهل زيادة قيمة عقد أي رياضي بما أن قيمته تنبع من حكم ذاتي بحت. بعض اللاعبين الكبار في السن لا يفعلون سوى الانتقال من هذا النادي إلى ذاك دون أن تطأ أقدامهم أرض الملعب.

إن مشكلة غسيل الأموال تكمُن في جعل تلك الأموال شرعيّة، أي تبرير وجودها عن طريق عمليات تمويهيّة. فإما أن يتم التلاعب بالفواتير، أي رفع قيمتها؛ وإما على العكس شراء لاعب بسعر أعلى من سعره الحقيقي بغرض التهرب الضريبي؛ التهرب الضريبي وغسيل الأموال إذن وجهان لعملة واحدة.

بعد حَرب كوسوفو، وجد العديد من المجرمين أنفسهم يمتلكون مبالغ طائلة فقاموا بشراء الأندية الرياضية. مصلحتهم في ذلك هي أن النادي يُسافر مما يمكّنهم من بيع الأسلحة أو المخدرات أو أي مواد أخرى مُهَرّبة دون مخاطر كبيرة؛ أي شُرطي سيوقّف حافلة مليئة بالمشجعين السكارى لتفتيشها؟

هناك طرق أخرى بلا شك لغسيل الأموال، مثل شراء عدد ضخم من تذاكر المباريات لمشجعين وهميين. حُجِزَت تلك المقاعد بأموال سائلة؛ في بعض الدول يتم مضاعفة عدد المشجعين: في بعض الأندية البلقانيّة بيعت أكثر من 28 ألف تذكرة في ملاعب لا تسع سوى 10 آلاف مشجع! في الثلاثينيات كان المجرمون يشترون الملاكمين والخيول والأندية الرياضية لأن الرياضة فرصة رائعة للأنشطة المالية غير القانونية. في الأندية الجماهيرية يمكن، لتهدئة حماسة المشجعين، طرح بطاقات VIP تُباع بأسعار خياليّة. والأموال المُحَصّلة من بيع البطاقات تسخدم في شراء المخدرات على سبيل المثال.


- ما العامل الذي جدّ منذ الثمانينيات حيث ضُخَت مبالغ طائلة من الأموال في سوق كرة القدم؟
* العامل الجديد هو العولمة، أي سرعة وسهولة نقل رؤوس الأموال. بعض الأندية البرازيلية والصينية ليس لديها حتى سجلّات محاسبيّة. بالطبع كان يوجد سلوك إجرامي من قبل، ولكنه لم يكن احترافيًا، فالمحتالون كان يُمكن أن يُقبَض عليهم على الحدود. إن تخفيف الرقابة واللوائح أفاد "المجرمين" كثيرًا. منذ العولمة، ازدادت المبالغ الضخمة في كرة القدم زيادةً مهولة. والفارق بين الآن وسابقًا هو أنه في السابق كان الناس يبقون في أنديتهم وشركاتهم لمدة ثلاثين أو أربعين عامًا. الاحتيال كان موجودًا ولكنه ظلّ محليًّا ومُقيّدًا لأن الناس كانوا يعرفون أنهم باقون في هذا المكان، وبالتالي يصعب اختلاس مبالغ ضخمة وكانوا يكتفون بمبالغ هامشيّة؛ كما أن نقل الأموال عبر الحدود كان يستلزم استخدام حقائب؛ أما الآن فأصغر مؤسسة تمتلك الملايين: لم يعد يمكن ضبط الأمر.

كل هذه الأموال المتدفقة إلى كرة القدم هي في الأساس نتيجة الرعاة والعائدات التليفزيونيّة. وبناءً عليه، أصبحت كرة القدم نشاطًا حيث للصورة أهميّة محوريّة، الأمر الذي يؤدي إلى النفقات الباهظة والتبذير: إذا وقّع لك لاعب مشهور، انتظر مكاسب في المستقبل وبالتالي الحصول على المزيد من الأموال تشتري بها المزيد من اللاعبين. ولتصل إلى التليفزيون وتستفيد من عائداته، يجب أن يكون لديك مجموعة من اللاعبين الكبار. والعكس، إذا كانت صورة النادي سيئة لن يُقرضك أحد أموالًا ولن يستثمر في ناديك.


- والمراهنات التي تتم بطريقة غير قانونية؟
* إن القضية التي تدور حاليًا في بوخوم (ألمانيا) حيث أُدين الكثيرون لأنهم تلاعبوا بنتائج العديد من المسابقات؛ يوضّح لنا أن ظاهرة المراهنات تلك لها سوقها هي الأخرى. يظهر ويختفي ما يقرب من 1700 موقع مراهنات كل يوم على الإنترنت الذي بفضله يمكنك تنظيم مراهنات من دول لا وجود لأي رقابة فيها.

في أبريل/ نيسان 2013، فُتح تحقيق مبدئي للتحقيق في مباراة فريقي آجاسيو ومونبلييه في دوري الدرجة الأولى. مونبلييه كان بطل الدوري وآجاسيو كان من المفترض أن يهبط لدوري الدرجة الثانية، ولكن راهن مشجعو مونبلييه بـ 200 ألف يورو على انتصار آجاسيو، وهو ما حدث بعد حصول الأخير على ركلة جزاء في الوقت الإضافي. إذا كانت تلك المراهنات قد تمت على مواقع غير رسمية بدلًا من الموقع الرسمي الفرنسي للمراهنات لمرّ الأمر دون ضجّة تُذكَر.

في أيامنا هذه، تُقتَرَح أشكال مختلفة من المراهنات. أتذكّر عندما كنت أؤلّف كتابي "ياقات بيضاء وأياد قذرة"، لوحظ أن هناك لاعبين في الدوري الألماني يتعرّضون لإصابات خطيرة ولم يفهم أحد سبب ذلك، حتى اكتشفوا أن المراهنات كانت معقودة على أول بطاقة حمراء في المباراة: وبالتالي عمد بعض اللاعبين في بداية المباريات إلى "كَسر" لاعبي الخصم حتى يُطرَدوا سريعًا ويحصل المتواطئون معهم على الأموال.


- لماذا لا توجد إدانات كثيرة في الوسط الكروي لتلك الأمور؟
* بسبب قلة الملاحقات القانونية الناجمة عن قلة الشكاوى المقدّمة، ثم بسبب أن من يُدين تلك الممارسات إنما يُقدم على مخاطرة كبيرة لأنه يُعرّض نفسه للاستبعاد من عائلة كرة القدم ويجد نفسه في العراء. عالم كرة القدم مغلق جدًا، فعدد محدود جدًا من الوكلاء مثلًا يتحكم في سوق الانتقالات، وإذا لم تلجأ إليهم لن تنل مُرادَك مطلقًا. يمتلك الوكلاء من القوة أنهم في سنوات 2000-2002 في جنوب فرنسا هددوا لاعبيهم بكسر أقدامهم إذا رفضوا الذهاب للاحتراف في إنكلترا حيث أسعار الانتقالات كانت الأعلى.

كما أن الناس لا تريد أن تعرف بتلك الاحتيالات. كرة القدم هي "أفيون الشعوب". الملاذات الضريبية تلعب أيضًا دور وساطة هامًا بما أن الانتقالات تتم فيها بعيدًا عن أعين القضاء. والدليل على كل تلك النشاطات هو التحويلات المالية، ولكن عندما تُجرى تلك التحويلات في جزر الكايمان، فإنه يجب انتظار سنتين حتى تُكتَشَف. من الصعب على القضاء ملاحقة الجميع بسبب قصور الوسائل.

المساهمون