شعرية الصّعلكة في "ولاّعة ديوجين" لـ عزّ الدين بوركة

شعرية الصّعلكة في "ولاّعة ديوجين" لـ عزّ الدين بوركة

10 سبتمبر 2017
(سيروان باران)
+ الخط -

بمعية الشاعر المغربي عز الدين بوركة، إنما نكون بصدد تجربة فوضى الأعماق إذ تقود إلى تمرّد مطلق، وكتابة انقلابية على كل شيء تقريًبا.

مقامرة إبداعية تعبث بالذات والعالم، وتنطلق في شكل لاهث، وتتوسّع تبعًا لمتوالية صيحات جوانية مهلّلة برؤية ثالوث الأنا والغيرية والرّاهن، على شاكلة معكوسة ومقلوبة، عصية على المعايير ومعتقدة بالبساطة والعبثية والطّيش، وتحاول النأي أبعد ما يكون عن التّكلف في إنتاج الحياة الموازية التي يمكن لنص ما بعد قصيدة النثر أن يتنفّس عريها ومجونها وتناقضاتها، كي يلثم أثداء اللحظة الزئبقية الهاربة، ويمنح انطباعات عزلة إبداعية داخل رئة المعنى، أو لعلّه إبط المعنى تمامًا مثلما يحلو لصاحبنا التوصيف، المعنى القذر والمستمدّ من مشهدية الظل والهامشي والمعطّل.

إنها مناطحات تتقلّب في أقنعة مصادرة الجاهز، وتتسلّح بنبرة الوجع الواعي إزاء دفق الهواجس السّخي، إذ تجود به الاضطرابات المفاهيمية فيما هو أعمق لحمة والتصاقًا بخلل الانتماء وتجليات الوطن المنفى.

إن هذه الفلكلورية المدغدغة بنوبات الجنون وعلقمية المعالجة، تنفّر الذات والحياة على سطحتيها، لتلتقي فقط مع ما هو صوفي وجوهري نابض بشغب الحرف وعنفوان الموقف، بحثًا حثيثًا، وإن في حدود المتاهة التعبيرية، وجزافية قلقلة الكامن، وحجّا روحيًا محايثًا يروم حقيقة الوجود والأسرار الكونية.

شعرية وإن لازمت أفلاك الواقعية، وسعت هامسة بهذيانات القرين، ما تفتأ تفتّت صور الساكن، وتنشّط براكين الخامل، محدثة دمغة القول مثلما يبصم عليها وبالعشرة، تضخّم أنوي مستفزّ، ونرجسية مقبولة في تطاولها المشروع وغير الرّحيم بمعطيات السائد والمنمّط، حدّ السّلوك التعبيري الذي يعتمد تشيئ الحيّ و بالمقابل يؤنسن الجامد.

جملة منح جمالية صاعقة بمرارة الرؤية، يمكن استنباطها من أجدد إصدارات شاعرنا، الأضمومة "ولاّعة ديوجين" الصادرة عن مؤسّسة الموجة الثقافية.

وفيما يلي سنعرّج على بعض محطّات هذه التجربة الباذخة والوارفة باستنطاق سلبية الكائن، والعزف على وتر الصّعلكة كفكر طوباوي تمتدّ جذوره إلى أقدم حالات تقمّص فيها الحكماء الأدوار الشاذة والنشاز لتمرير نظرتهم تجاه منظومة ما يتفتّق في دورة كاملة، من وإلى كينونة لا ترضى بغير الكمال.

ونكتفي بهذه المقتطفات، علّنا نستطيع تعليل ما قصدنا إليه سالفا، من كون المنجز يراوح بين لذّة الأطروحة ودهشة السؤال، ضمن خلفيات السيرة" الكلبية"، ولا يتّفق مع راهننا المراهق والمتهوّر، إلاّ في ما يلامس ثورة ذؤبان صحراء الجاهلية، ومن سار لاحقًا على نهجهم، وحذا حذوهم في مقارعة أكاذيب الحياة والسياسة، وأوهام الواقع المكهرب بعقيدة البوم، بما هي فلسفة انطوائية تخدم أهداف الطغاة بدرجة أولى، وتعمّق الهوة بين رؤوس الهرم وقاعدته، ما بين الذروة والذيل، وترسّخ لعقلية القطيع.

نقف على الالتماعات التالية:


لكي تكتب قصيدة

يلزمك مسدّس

ورصاصة واحدة

يلزمك خريطة من زمن الحرب الباردة

وأن تجلس عاريًا تمامًا

ناظرًا لخوائك في تمعّن فاضح

وتقول:"هذا ليس أنا

أنا لست هذا"

...................

ويتغذّى النقّاد على دم

الشعراء

أمّا القرّاء

فقتلة متسلسلون

وما الكتابة إلاّ محو لما بين الآن وما سبق

أو إفراغ الجمجمة من الأسلاف.

.....................

لست شاعرا كما تتخيلين يا حبيبتي،

أنا صرصار يعيش في مجاري قصيدة

..........................

هذا العالم مجرّد كلب تائه، يتبوّل على قارعة الكون.

أمّا تلك الآلهة المعلّقة هناك على أراجيح الأبراج، كبيرهم يتعلّق في

ثقب الأوزون كقطّ يلعق ذيله.

.........................

والحكمة حذاء مثقوب وممزّق

.....................

إنّي الآن وحيد وتافه جدًّا

كأجراس كاتدرائية قديمة

الآن،

دودة أرض تنهش جمجمتي

........................

ولأني برأس فرس النهر

وأعيش داخل قنّينة ويسكي

ولأنّي أعمل في دفع الزمن إلى الخلف

.....................

سأحلّق في غياهب نفسي/ أغلق عينيّ جيدا/ أعلقني/ أتهاوى / أندفع/

أنبجس/ أتعلّق/ أتشبّث/ أتركّل.. أصرخ/ أرحل / أحيا/ لا أحيا/

أتناثر/ أتكاثر

هذا أنا... إلى الأبد.
....................

نهد حبيبتي ساحة لنصوص أسخيليوس

وحدي ـ ولأني أعمى ــــ أعرف أن برومثيوس العجوز

هو صاحب أساطير العالم السفلي

لهذا ــ منذ الأزل ــ أحمل العالم على كتفي.

...................

العرَق صابون العري

والعري مصباح الحقيقة

يا ديوجين تعرّى ترى الحقيقة

وما عري حبيبتي إلاّ انكشاف الخَلقِ

حبيبتي القدمُ

وقلبها هيولى للخلق

أنا الحديث الزائل

وحبيبتي الباقي الأزليُّ

ينبغي عري لإزاحة ستار السّرير

وما اللذة إلاّ عينُ قارئ

أو لعلّها دودة قزّ تجول في نصّ

وكلّ ذلك العري يلزمه رغوة صابون وغلق الباب بإحكام

حتّى لا تتسلّل عينُ ناظر إلى إبط المعنى

......................

[ يكفي أن أزرع كلمة لتنبت شجرة

على جنبات الطّرق.

لست شاعرا،

بل جرّاح كلمات

أشحذها وأشدّ تجاعيدها وأقلّل من ترهّلاتها الزائدة

لتصير الكلمة أجمل ممّا هي عليه

...................

1- انتحار الإيديولوجية من على جبل..

2- سقوط السّماء أول أمس جنوب الأرض

3ـــ اتّساع قلبي للأسماء كلّها

4ــ إصابتي باللغة

...........................

تكفي قصيدة واحدة لفكّ كل آفات العالم وعاهات الآلهة ومصائب

القرون

.....................

دعك من العالم وتعال نجلس على حافة السّحاب الذاهب إلى

أقصى الرّأس المثقلة بالدخان. البارحة صديقي خرجت باكرًا من

لوحة في زاوية المتحف المنسي حافة كون على بعد شبر واحد

من بيت ديونيزيوس. حيث تنبت فتيات غجريات مهاجرات مع

الماعز الأطلسي، هناك حيث تسرح النّملات بأجنحة من نحاس

....................

ونضع اللغة في قارورة زيت قديمة قبل أن نغادر البيت؛

اللغة غياب

وكلّ تلك الورقات عذارى

....................

الشعر درب من النبوءة

والنبوءة لعنة القدامى

.....................

لست أكتب هنا قصيدة .. نكاية في شيء.. الموناليزا مثلًا..

أو مريم التي تعضّ على مؤخّرتها الصغيرة

بل لأستقصي سرعة مربّع الضوء من على لسان إنشتاين

المتدلّي في الصورة هناك

كانحناء للكون

بحيث لا يسع المتلقّي سوى الانجذاب وبطواعية لهذه العوالم المنكفئة على سنابل الغرائبي، في جهات العري والكلمة الغضّة البكر المتصادية والآفاق السردية التي يحرثها المعنى بأقل من نفس.

هو ارتماء مخملي أغور ما يكون في شبكية وتلافيف تاريخ ضمني اشتعلت فلسفتهُ، وتوهّجت بأمجاد الصّعاليك و المجانين.

نحن نعرف عن مصباح ديوجين، الأسطورة التي زامنت جبروت الإسكندر الأكبر، ووطّدت للمدرسة " الكلبية" بالتوازي مع " الرواقية " و" الإبيقورية"، في انشقاق ذي نكهة كأنما حسك ينتزع من مزقة صوف، لم يجْر بدم، وتفرّع عن السّقراطية.

ومما هو مستفاد من عتبة الديوان هنا/ ولاّعة ديوجين، ذلكم التعارض بغرض القفز فوق موجبات الاجترار والاحتواء الذي لا طائل منه.

فعل تجاوز وإن اتكأ على الموروث والرّمز الإنساني، بإسراف ومعاضدة لسرب الشعراء العاقّ لحياة النعومة وأصداء البلاط، وسائر ما يتنافى ونواميس تذكير الآدمي بخبثه ونتانته وضعفه ممزوجًا بكمّ أحفوري من الطّاقات الدفينة والسّحيقة التي تحتاج فقط إلى بعض الجهد، لتفجيرها وتسخيرها من أجل بلوغ الأسمى والأجمل والأفضل، بعدّ القصيدة مكمن السّر ومفتاح اللغز بهذا الصّدد.

سحر الشعر لا يضاهى، على مرّ العصور، ثمّة هامات تشهد بذلك، والحرف لا يمنحنا ولادة ثانية، بغير سلك دروب المغاير واجتراح أسباب العلامات الفارقة، والتّشرّب من سلسبيل الخارق الذي يحافظ على المسافة بين تجاوزات الرّاهن ووحي الذاكرة.

هي منظومة وأيقونة من الدوال، استطاع شاعرنا، وإلى حدّ بعيد، إبرازها في هذا المنجز القيّم المتلوّن بمواضيع إدانة وتوبيخ العالم، من زوايا حرجة جدًا، في ضوء حاجة "سيزيفية "وذات فوّارة انتقت التيار الكلبيّ، لتركب إمّا زعمًا أو نبوءة، خطّين إبداعيين بقدر ما هما متوازيان لا يخلوان من تناقض أيضًا، مشيرًا بإبهام الغيظ إلى بؤر وجعنا الكوني وعرينا ونقصنا الوجودي.

ففلسفة العيش في برميل، ما هي بشكل أو بآخر إلاّ المعادل الموضوعي والرمزي لحرقة أو غضاضة الانتماء إلى الوطن المنفى، بصرف النظر عمّا إذا كان ذلك يبرّر النفور الذاتي ويشرعن خيار الصّعلكة.

المساهمون