جدول مفاضلات الموت: كائنات العالم الأخير

جدول مفاضلات الموت: كائنات العالم الأخير

05 اغسطس 2017
(مكتبة الصور العلمية، الصورة: أنيماتد هيلثكار لت)
+ الخط -

نخرج من الخذلان من باب الغضب، والغضب رحلة ليست ببعيدة باتجاه العنف. نفيض بالفقد الذي لا يُحتمل والألم الذي لا يُمكن أن يقاس لانهيار "الإنساني" حولنا، و"البشري" فينا الذي لا يتوقّف عن الانهزام أمام كل التصدّعات التي باتت الآن تهدّد بتفتت كل ما "يجب أن يكون" كـ بشر.

"العنف تجاه الآخر ما هو إلا حزن وألم فائض عن الاحتمال، تُقدّمة للآخر فنقول له: خذ، هذا الألم كلّه لي، ضعه في قلبك. أنا أتألّم، لذا عليك أن تتألّم أنت أيضًا"، تقول جوديث بتلر".

وتبدأ هذه الدائرة الملعونة بالاكتمال والتمدّد. لم نعد بشرًا كما "يجب أن نكون"، الغضب والعنف الذي أصبح جسديًا في الحرب، حدث قبلها، وكان فعلًا ذهنيًا وكان محرّكه الخوف: كنّا نخاف أن نشاهد اعتقالًا لصديق أمامنا، موتًا لرجل أو امرأة لا نعرفها في الطريق، خفنا أن يخاف علينا أحبابنا ويحزنوا لفقدنا. خفنا أن نعتقل نحن أنفسنا ونضطر أن نرى ما حكت عنه رواية "القوقعة"؟ حدث هذا في بداية الثورة.

وقبل هذه البداية، كنا خائفين من رواية "المحاكمة" لـ كافكا، وفي أقلّ لحظاتنا خوفًا كانت حياتنا مضحكة كأحداث قصص عزيز نيسن. كنّا نخشى شرطي المرور ببذلته الرسمية حتى لو لم نمتلك سيارات.

لكن حتى الخوف يصبح إنسانيًا دافئًا أمام الغضب.

تجاوزنا الخوف الآن –الخوف من الموت والخوف من الألم والخوف من الوقوع بالخوف - تجاوزناه بالموت المستمّر أمامنا كقصّة مكرّرة للمسيح الذي يقوم لتعاد محاكمته فصلبه ثم قيامته ومحاكمته وصلبه من جديد، أو أن الحسين يموت عطشًا ثم يحيا لكي تكرّر خيانته -بكل ما لدينا من قدرة على الخيانة - ويعطش ويموت.

ونحن مخذولون من البشرية وقوانينها الأرضية وعدالات السماء –المشكوك بوجودها سلفًا وقت السلم- عندما كان لا يزال للإنسانية الفرصة للتصرّف حسب "ما يجب أن يكون".

ثم ماذا؟

فلنعد قليلًا للوراء، طالما كنّا غاضبين وكان حزننا غير واضح المعالم تمامًا وانكساراتنا أخذت قناع "اليومي" و"العادي" و"المفهوم" وكان العنف اجتماعيًا: كما يوجد توزيع غير عادل للنقود، والراحة المدنية، وأساليب المعيشة والخدمات الفنية بين المناطق السكنية المتمايزة لطبقات، كذلك هناك توزيع غير عادل للحزن.

من يستحق الحزن أكثر على فقده، الفقير الذي لا يملك سوى قوت يومه؟ أم الغني الذي يملك مصانع مرتبطة بمؤسّسات للدولة يحرّك بها السوق؟

رجل يسكن في بيت من طابقين بحديقة خلفية ومسبح وثلاث سيارات، أم فتاة في مقتبل عمرها تسكن في واحدة من العشوائيات التي تطوّق المدن في البلدان التعيسة؟

أن يموت مهندس معماري أم طبيبة أسنان أم ربّة منزل أم عامل مقهى؟

أقل من هذا: السليم المعافى؟ أم الذي يملك رجلًا أقصر من أخرى وربّما يمشي بعرج واضح؟ أم الذي يسير بعرج طفيف؟

هل فقد رجل أكثر مدعاة من الحزن من امرأة؟

أمٌ لخمسة أطفال من حيّنا، أم امرأة لخمسة أطفال من الحيّ المجاور؟

ذات المرأة من بلدك، أم ذات المرأة من بلد عدوة لقضيّة بلدك؟

ولم توجد هذه المزحة في بقعة واحدة من هذا الكوكب المليء بالخذلان، بل حدثت أيضًا بين الدول: كأن يكون موت عشرة من مواطني العالم الأوّل، سببًا يدعو للحزن والصدمة أكثر من ألفين من سكان عالمنا الأخير والذين سيصابون بسرطان الرئة وسيموتون موتًا بطيئًا، لأن مصفاة لتكرير النفط وُضعت قريبًا من بلدة ما، لم يحسب أحد حسابًا لاتجاه الريح فيها، أو أن مجارير مدينة ستصب في البحر الذي يسبح به الأولاد ومنه سنصطاد أسماكًا لعشائهم.

ألا تستحق الحياة الحزن من أجلها، إلا حسب جدول للمفاضلات؟

".. وإن فقد حياة يستحق الحزن، حتى لو كانت حياة مجرم مدان: أثبت القانون إدانته وكانت عقوبته الموت لإيقاف أذاه ولجعله عبرة .. وهكذا يستحق، ربّما، الوقوف للحظة إنسانية صغيرة، بصمت، ننظر من خلالها فنقدر الحياة أكثر فأكثر.." جوديث بتلر.

ثم يموت شاب أمامك على التلفاز بطلقة واحدة في الرأس، أصدقاؤه يحاولون سحب جثّته، سحبه واحتواءه للمرّة الأخيرة. ثم يموت والدي بخطأ طبّي في المشفى الحكومي وموته يتمّ بإشراف أطباء لم يثق والدي يومًا بشهاداتهم ولا بالطريقة التي تم اختيارهم للبعثات التي عادوا منها بهذه الشهادات. ثم يموت عشرون جنديًا في تفجير على حاجز. ثم خمسة عشر طفلا اختناقًا بغاز لا يعترف بوجوده أحد جاء من عند الله.

ياله من هدر غير مبرّر، يالها من حياة كانت تستحقّ أن تعاش بطريقة أخرى دون ضغينة أو أذى أو ألم.. أو على الأقل أن يكون الفقد درسًا مؤلمًا عن قدسية الحياة. لكن الحزن سيسبّب كربًا وخذلانًا سيقود لمزيد من العنف. العنف الذي ينتهي بجدول مفاضلات للموت.

نحن الإنسانية العظيمة التي تسكن هذا الكوكب ويسقط عنها قناعها في كل حرب، في كل صفقة سلاح، في مخابر معدّة لاختراع أمراض جديدة، في صفقات الأدوية التجريبية للمرض المخترع حديثًا. والذي سيوزّعه نظام الأمم المتّحدة في المناطق التي يرخّص فيها حزن البشر ويكون فقدهم مسموحًا.

في المعابر المخصّصة لتهريب الكائنات من عالم القاع لعالم السطح، في تعاملات عالم السطح مع كائنات العالم الأخير وتسهيل انتقالهم للاندماج سريعًا في سوق الاستهلاك المحلّي، في دولة من دول العالم الأوّل -لم يتمّ دفن نفايات نووية في أرضها، ولا الاتّجار بمواطنيها كخدم أو عمّال أو عبيد- أمام مكتب طلب اللجوء على الرصيف حيث ينام منذ أيّام طالبو لجوء من بلدان لا ثمن لحياة البشر فيها.. ولا يحزنون.

المساهمون